مصير غزة ليس مرتبطاً بمصير “حماس”، بل بمسار القضية الفلسطينية ولا يبدل في الأمر أن تعطي أميركا وإسرائيل الأولوية لفصل مصير “حماس” عن مصير غزة، وأن تكون الأولوية لدى “محور المقاومة” بقيادة إيران هي الحفاظ على “حماس” وربط مصير غزة بمصير المشروع الإقليمي الإيراني وشعار “إزالة إسرائيل”. فما عكسته حرب غزة هو نوع من الإجماع العربي والدولي، حتى لدى داعمي اسرائيل ، على إعادة القضية الفلسطينية إلى مسار التسوية السياسية على أساس “حل الدولتين”. وهو في المقابل تأكيد للنظرية التي تقول إن حسابات طهران الجيوسياسية والاستراتيجية الحائلة دون الانخراط في حرب إقليمية شاملة انطلاقاً من حرب غزة تقدمت على تصورات حلفائها وأذرعها حول الطريق الذي رأوه مفتوحاً أمام القضاء على “بيت العنكبوت”.

وليس هذا لأن اميركا حشدت البوارج وحاملات الطائرات في المتوسط وبحر العرب لكي “تردع” إيران وسواها عن “توسيع الحرب”. فالحشد الأميركي، وسط التوحش الإسرائيلي في التدمير والقتل والتهجير في القطاع، ما كان رادعاً بمقدار ما يمكن أن يشكل استفزازاً يحرض على المواجهة الشاملة، لولا الحسابات الإيرانية والرهانات على شيء آخر. ولا شيء اسمه سياسة مجانية على طريقة المثل القائل ليس هناك وجبة مجانية.

ذلك أن الوقائع الملموسة لم تترك مجالاً للغموض. فلم يكن وارداً منذ البدء، كما ظهر، تلبية دعوة محمد الضيف القائد الذي خطط وأدار أكبر زلزال ضرب إسرائيل، وهو يعلن بدء عملية “طوفان الأقصى” إلى فتح الجبهات العربية والإسلامية على العدو في معركة “تحرير فلسطين”. كان ولا يزال من الممكن تقديم “المساندة” القوية المضبوطة على جبهة الجنوب اللبناني والرمزية على بقية الجبهات. مساندة بـ”القوة الناعمة إلى جانب القوة الصلبة”، كما قال سعيد جليلي ممثل المرشد الأعلى علي خامنئي في المجلس الأعلى للأمن الوطني الإيراني.

 

حتى هجمات الفصائل المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني على القواعد الأميركية في العراق وسوريا، فإن طهران تنصلت منها. وزير الداخلية أحمد وحيدي قال “لا علاقة لنا بالهجمات على القواعد الأميركية”. وزميله وزير الدفاع محمد رضا أشتياني قال “نحن لا نتدخل في قرار هذه الجماعات”. صدق أو لا تصدق.

والفارق كبير بين ما يخطط له كل طرف وما يصل إليه. “حماس” خططت منذ الانقلاب عام 2007 على السلطة الوطنية الفلسطينية والفصل السياسي بين القطاع والضفة الغربية للإمساك بكل القضية الفلسطينية وحكم الضفة مع غزة، فوجدت نفسها تقاتل للبقاء في القطاع، رافعة شعار التحرير من البحر إلى النهر. وإسرائيل التي كانت في حسابات أميركا وأوروبا قوة ردع إقليمية و”حاملة طائرات برية” لحماية المصالح الغربية تبدو حالياً دولة مرعوبة مصدومة بأداء جيشها وأجهزتها الأمنية وفي حاجة إلى حماية الغرب الأميركي والأوروبي لها بالسلاح وحاملات الطائرات والمال والدبلوماسية.

كذلك الأمر بالنسبة إلى الفصائل التي تسلحها وتمولها طهران والمرتبطة بفيلق القدس التابع للحرس الثوري والمنضوية في “محور المقاومة”. هي تتصرف على أساس أنها جزء مهم من محور يعمل لتحرير فلسطين وإخراج أميركا من المنطقة والسيطرة على السلطة في بلدانها. غير أنها أذرع لمشروع إقليمي إيراني يرفع شعار “إزالة” إسرائيل وطرد أميركا، في حين تعطي طهران الأولوية استراتيجياً للمشروع، وتدرك ما تصطدم به من قوى دولية في الغرب والشرق إذا تحركت جدياً لإزالة إسرائيل.

والمدنيون في غزة وسواها يدفعون الثمن، وسط كثير من البكاء عليهم، وقليل من المساعدات.