ألقت إيران وأذرعها المدنيين الفلسطينيين “كبش المحرقة” الاسرائيلية (أف ب)

نوهت الثقافة العربية بأولئك الذين يتعلمون من أخطائهم في سياقات الأمثال والأساطير، فضلاً عن النصوص العرفانية والدينية، فإن أياً من ذلك لم يمنع وقوع شرائح واسعة من الشعوب العربية في أخطائها تلو الأخرى، خصوصاً ما سوق من تلك الأخطاء في قالب الدين.

إن كان لذلك شواهد لقرون وعقود ظلت فيها المنطقة العربية حقل مؤامرات لا يكاد ينتهي فصل منها حتى يبدأ آخر، فإن حوادث 11 سبتمبر (أيلول)، وما سمي الربيع العربي “، والآن حرب السابع من أكتوبر بين حماس واسرائى ، كافية لإظهار كم وظفت في إيقاع أشد صنوف الأذى بالعرب، شعوباً ودولاً، على رغم تغليفها بسياج بريق، يظهر أنها انتصار للكرامة العربية.

النأي الإيراني والإسرائيلي بالنفس

غير أن المشهد لم يلبث طويلاً حتى انقلب إلى أشلاء ودماء وانهيارات وحروب استقطاب داخلية وحملات تحريض ومزايدات وتجنيد كان دعاتها تنظيمات الاسلام السياسي ، وخلف الستار منها إيران وأطراف غربية وإسرائيلية تنافسها على تبديد الاستقرار في المنطقة واستغلال هجمات حركة “حماس” في تنفيذ أبشع مخططاتها، على رغم أن تمكين الحركة أساساً كان طبقاً لنهج نتنياهو الذي فسره في 2019 يوم قال “أولئك الذين يريدون إحباط إقامة دولة فلسطينية يجب أن يدعموا تعزيز (حماس)”، وهو ما ذكرت به صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” حامل لواء إبادة القطاع هذه الأيام في عنوانها القائل “على مدى سنوات دعم نتنياهو (حماس) الآن انفجرت في وجوهنا”.

لكن الجيد الوحيد في هذه الأزمة، إن كان فيها ما هو جيد، هو أنايران  مثل إسرائيل، على رغم محاولاتهما النأي بالنفس عن تحمل المسؤولية في تهيئة ظروف المعركة وإشعالها، إلا أن تحركاتهما أظهرت المستور في مثل تصريحات الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله، أخيراً، في خطاب “الانكشاف والخذلان”، كما يسميه بعض المخدوعين بشعاراته ويظنونه معنياً بمساندة غزة جدياً قبل أن يجعل الفلسطينيين “كبش المحرقة”، ويؤكد أن الهجوم “فلسطيني 100 بالمائة”، وفي ناحية إسرائيل كانت تسريبات محاولة نتنياهو استغلال الهجوم في تهجير سكان غزة إلى سيناء، تكراراً لنكبة 1948م لم تعد خافية.

ليس هذا تحليل المناوئين، فالصحافة الإيرانية على سبيل المثال، تشير إلى الحرب بأنها “فرصة للنظام”، وإن حذرت من دفع ثمن خروجها عن نطاق السيطرة، وانقلابها تهديداً لمصالح طهران عكس ما يجب أن تكون.

ورأى المحلل السياسي قاسم محب علي في مقابلة مع صحيفة “اعتماد” أن “كل شيء مرتبط بطريقة إدارة هذه الأزمة”، موضحاً أن “الأمر يعود لمدى قدرة إيران في استغلال هذه الفرصة، والاعتماد على الدبلوماسية وفن التفاوض، لأنها تستطيع أن تدخل في مفاوضات مع الغرب وتحصل على امتيازات من هذه المفاوضات، لكن لو تم توسيع نطاق الحرب وانجرت إيران إلى هذا الصراع، فإن ذلك يهدد بكل تأكيد العلاقات بين طهران والغرب”، مشيراً إلى أنه في هذه الحالة “لن تكون الحرب مقصورة على إسرائيل وفلسطين أو إيران وإسرائيل، وإنما ستشمل الحرب كل المنطقة، وربما العالم”، وذلك بحسب ترجمة “إيران إنترناشيونال”.

 

مشاركة أذرع إيران في العراق واليمن وسوريا تزامناً في تطبيق ما سمته “وحدة الساحات”، ولو شكلياً، لم يترك الشك للآخر الغربي، سواء كان أميركياً أو إسرائيلياً بأن طهران هي المحرك، وأن “حماس” و”الجهاد” باتتا إحدى الأذرع، كمثل “حزب الله” والحوثي، وهو أمر مفروغ منه حتى قبل المعركة الحالية، يوم اعتبرت الحركة قاسم سليماني “شهيد القدس”، وهو المصنف إرهابياً في دول عربية عدة لفظائعه في حق السوريين والعراقيين السنة.

لكن إيران لم تكتفِ بهذا، بل شرعت في التجنيد والاستقطاب ودعوة “قوافل المجاهدين إلى التطوع في قطاع غزة” للتوحد ضد الشيطان الأكبر ومحو إسرائيل، التي تهجر الفلسطينيين وتبيدهم، في دعاية سياسية، برهن عليها انكفاء نصرالله وعدم مساندته رفاقه في السلاح، وهو الذي يفاخر بقواته وعتاده.

تمجيد إيران وتخوين العرب

هذا الموقف من زعيم “حزب الله”، أضاف إليه دعوته الشعوب والدول العربية إلى مساندة المجهود الحربي في غزة “كي تنتصر (حماس)”، مشيراً إلى أن الجبهات المحسوبة على إيران أسهمت، وبقيت الجبهات العربية السنية، المحيطة بإسرائيل والبعيدة، بهدف إلقاء الملامة على الدول العربية وإظهارها في موقف المتأخر والمتخاذل في حق القضية الفلسطينية، مقارنة بالإيرانيين، وهو معنى عبر عنه الحوثيون بصراحة أكبر، حين زعموا أن السعوديين حالوا بينهم وإيقاع الهزائم بتل أبيب.

يتزامن مع هذا الضخ الإيراني، مزايدات أخرى من قيادات حركة “حماس”، وتيارات الإسلام السياسي وتوظيف للمعركة في سياق الشيطنة والتحريض على الدول العربية التي تستخدم كل ثقلها في سبيل إيقاف الحرب مثل مصر والسعودية والأردن، وتأجيج الجماعات المتطرفة لتأليب الرأي العام لإظهار أن مقاربتها في القتال هي الصواب، على رغم الجنون الإسرائيلي الذي قتل حتى الآن أكثر من 10 آلاف إنسان نصفهم أطفال، ودمر معظم القطاع تقريباً.

“ربيع التجنيد”

في مثل هذه الظروف يصبح المناخ “ربيع التجنيد” بإجماع المراقبين، ولذلك أطلق كتاب رأي وباحثون أمثال عبدالرحمن الراشد ومشاري الذايدي وعبدالله بن بجاد، صرخات، تناشد الأسر بالحذر من “تجار الأزمة” أن يسرقوا أطفال السعوديين والعرب ويلقوا بهم في أتون الصراع مجدداً، كما حدث في أفغانستان والعراق وسوريا.

ويرى الباحث المتخصص في الإسلام السياسي سامح إسماعيل أن ما يجري الآن في المنطقة يمثل أفضل وصفة لإيران والجماعات المتطرفة، فهي تحاول توظيف الحرب الجارية في زعزعة استقرار الدول، وصرف الأنظار عن أخطائها (إيران وجماعات الإسلام السياسي)، التي أفضت إلى الكارثة القائمة، التي لا تلغي الإسرائيلية، وإنما تضاف إليها. ويقول “التنظيمات الإسلاموية منذ حسن البنا تلعب بالقضية الفلسطينية كأداة من أدوات الضغط ضمن آليتها الرامية للوصول إلى الحكم، أو العودة إلى صدارة المشهد السياسي، كما في حالة (الإخوان المسلمين)، يتجلى ذلك مثلاً في الحراك الذي يقوم به حزب العدالة والتنمية المغربي، وهو الذي يحاول أن يتنصل من قيامه بالتوقيع على الاتفاق الثلاثي مع إسرائيل لدى رئاسته الحكومة في ديسمبر (كانون الأول) 2020، وهو الآن نفسه الذي يقوم بالدعوة إلى المقاطعة ومهاجمة التطبيع ضد إسرائيل، ويرفع الرايات وخطاب المظلومية، ويتاجر بالقضية الفلسطينية لأنه أصبح خارج الحكومة”، مشيراً إلى أن نظيره الجزائري “حركة مجتمع السلم” يقوم بالدور نفسه.

وتشير الباحثة في مركز “رع” للدراسات أسماء دياب إلى أن جماعة “الإخوان المسلمين” لم تتأخر في توظيف هجمات السابع من أكتوبر، إذ بدأت في “إعلان فريضة الجهاد على كل مسلم، مما قد ينتج منه ارتفاع معدلات التجنيد في الجماعات الجهادية في تلك الفترة بفعل شحن المشاعر، بخاصة في ظل تكرار عرض المشاهد الإنسانية المأسوية في غزة”، وهي التي تعتبر فلسطين في كل المحطات وقوداً للخطاب التعبوي المحرض للجماهير، حتى في وقت يقاتل فيه عناصرها في أفغانستان ويستهدفون برجي التجارة العالمية في نيويورك، ولا سيما أن المعركة هذه المرة منسوبة إلى حركة “حماس”، التي لا تخفي انتماءها لتنظيم “الإخوان” الأم.

الحنين إلى “مرسي”!

وتلاحظ أن “جماعة الإخوان وأخواتها، تحاول استغلال أزمة فلسطين في الترويج لفكرها وتمجيد قادتها، فقد أكد المتحدث الرسمي لجماعة الإخوان المسلمين في إسطنبول أن ما حدث في 2013 ضد الرئيس المسلم (مرسي)، كان بهدف استفراد الصهاينة بالفلسطينيين، محاولاً عكس صورة لدى أتباعه وغيرهم بأن الجماعة هي من تنتصر لقضية فلسطين”.

في هذا الصدد تجد الميليشيات الإيرانية نفسها في موقف مريح، إذ هي تظهر أنها قامت بواجبها المزعوم تجاه القضية، فيما تكثف الانتقاد ضد الدول العربية والضغط على شعوبها كي تثور ضدها وتحدث فيها الاضطرابات، وهو ما ظهرت آثاره التدميرية بالتواطؤ مع جماعات الإسلام السياسي والإدارة الأميركية في فترة ما يسمى “الربيع العربي”، التي دافعت فيها إدارة “أوباما” عن مقاربة الإسلام السياسي، وتوقيع شراكة مع إيران “الاتفاق النووي”، مما كانت تراكماته جزءاً مما صنع المشهد الحالي، بتمكينه لإيران وحلفائها.

ويعتبر سامح إسماعيل رئيس تحرير “حفريات” المتخصصة في تتبع نهج الحركات الأصولية، أن هذا النهج صار مألوفاً وانكشف غطاؤه أكثر من مرة، لكن أمام العدوان الإسرائيلي في غزة، يصعب على كثر إعمال تفكيرهم في المآرب الإيرانية وربحها من الأزمة. ويضيف “في الجانب الإيراني نجد ميليشيات (زينبيون) القادمين من باكستان، و(الفاطميون) القادمة من أفغانستان والميليشيات التابعة لإيران الموالية للحرس الثوري وفيلق القدس واجتماعاتها المستمرة مع إسماعيل قآني من أجل ترتيب المشهد الميليشياوي العام، بعيداً كل البعد من القضية الفلسطينية، وإنما لنيل مكاسب طائفية مذهبية ضيقة وسياسية أيضاً برفع شعارات الجهاد، ثم يدفع الفلسطينيون وحدهم الثمن، بينما (حزب الله) في لبنان، و(الحشد الشعبي) في العراق والتنظيمات المنخرطة معه نجدهم آمنين”.

أما دعاوى ما يسمى “تيار المقاومة” الإيراني، بالدفاع عن فلسطين، فأكثر ما يكشف عنها بالنسبة إلى الدول العربية في المنطقة، فهي أعذار حسن نصرالله في التفرج على إبادة إسرائيل غزة من دون رد فعل يساوي حجم الكارثة، عكس ما تعهده هو ووزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان، الذي تباهى أول الأمر بأن “أيدي المنطقة على الزناد” في حال تطور الهجوم إلى بري ولم توقف إسرائيل عدوانها.

وكانت الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً صريحة في تفسير هذا الموقف من إيران وحلفائها، خصوصاً الحوثيين، إذ قال المتحدث باسمها معمر الإرياني “ميليشيات الحوثي، وغيرها من أذرع إيران في المنطقة، لم تقدم لفلسطين والقضية الفلسطينية سوى الشعارات الفارغة، بل عمدت إلى المتاجرة بمآسي الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، واستغلالها لصالح أجندة عنصرية لا تنسجم مع عدالتها ونقاء نضالها”. وأضاف “يقول فلسطين وقطاع غزة بعيدة عنه، بينما ظل طوال السنوات الماضية يسفك الدم اليمني، ويدك الأحياء السكنية في عدن وتعز ومأرب والحديدة ولحج والضالع وغيرها من المحافظات اليمنية بالسلاح الثقيل والصواريخ الباليستية والطيران المسير المصنع في إيران، بحجة محاربة إسرائيل”.

وتقول إيران إنها تريد التهدئة في المنطقة والإقليم وخروج القوات الأجنبية، وتشديد الضغط على إسرائيل لمنح الفلسطينيين حقوقهم عبر دعم “المقاومة”، إلا تلك المزاعم أصبحت توجه إليها انتقادات كبيرة، حتى من داخل مناطق نفوذها، والداخل الإيراني.

أجواء صناعة المتطرف

ولم يصدر مركز “اعتدال” العالمي المتخصص في رصد تحركات الجماعات المتطرفة على السوشيال ميديا حتى الآن تقريره منذ تفجر الصراع بين “حماس” وإسرائيل، لكن أمينه العام منصور الشمري، لفت في مقالة سابقة إلى أن الظروف المحيطة، كانت صاحبة الحظ الأكبر في جعل الشخص ضحية للاستقطاب والتجنيد. واعتبر أن “المتطرفين يصنعون ولا يولدون”، فهم نتاج “عمليات سيكولوجية ومادية عميقة، تشكل كينونتهم العقدية والنفسية مفاهيم أحادية متشددة رافضة للسياق المجتمعي، أو للنسق الإنساني الفطري القائم على التعايش والاعتدال. تدفع بهم نحو تشكيل جماعات وتنظيمات تتشابه وتتشابك في أهدافها حد الانتقام من المجتمعات أو الهيئات المستهدفة”.

ولاحظ أحد تقارير “اعتدال” هجرة قسط كبير من نشاط الجماعات الإرهابية إلى الساحل الأفريقي، حين “استطاعت التنظيمات الإرهابية أن تستغل الهشاشة الجغرافية للمنطقة هناك”، إلا أن عودة الصراعات إلى المنطقة أعادت أجواء الاستقطاب والاضطراب التي تشكل منافذ تسلل عناصر التنظيم إلى عقول الضحايا، وذلك في وقت لم تندمل فيه بعد جراح ما خلفته صراعاتها، خصوصاً في سوريا والعراق، حيث اتخذ التحالف الدولي لهزيمة “داعش” جملة “العودة للديار” شعار مرحلة يراد فيها ترميم ما أفسده التنظيم في أرواح السكان قبل البنايات والمدن.

إسرائيل وأميركا توفران الذرائع

ووثقت دراسة أجراها مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات ارتباط التجنيد بتجدد الصراعات، خصوصاً تلك المتعلقة بقضايا تمس وجدان الشعوب مثل الحروب الدينية والمذهبية والطائفية. ولاحظت الدراسة التي فحصت سيراً ذاتية مئات من المقاتلين في صفوف “داعش” بعد 2014، وجود ارتباط كبير بين دوافعهم وتدفقهم مع الأحداث ذات الطابع الديني، مثل التصفيات العرقية والاصطدامات الطائفية، بين عناصر “حزب الله” والميليشيات التابعة لإيران في سوريا، حينها.

ولهذا يحذر باحثون مثل سامح إسماعيل من تحويل الصراع في فلسطين إلى ديني، مثلما تحاول “حماس” و”حزب الله” وجماعات الإسلام السياسي، وبعض الغربيين تصويره، بهدف تفجير المنطقة وتجييشها وتعريضها للدمار، بينما هو في الحقيقة مواجهة ذات أهداف وحسابات سياسية معلنة، وبعضها خفي، تستهدف تثبيت إيران أقدامها في المنطقة العربية على حساب سكانها ودولها، في وقت وجدت فيه إسرائيل ذريعة لتنفيذ مخططاتها في جعل إقامة دولة فلسطينية أمراً مستحيلاً عبر تهجير ما تبقى من سكانها وتمكين “حماس” عدوة سلطة رام الله اللدودة.

وأبدى باحثون غربيون خشيتهم عند استمرار أميركا في تأييد إسرائيل كلياً على رغم انتهاكاتها الصارخة في حق المدنيين في غزة، من توفر أرضية خصبة لتأجيج العنف بما يسهل مهمة المتطرفين في تجنيد العملاء واستقطاب الشباب في المنطقة، مثلما حدث في تجارب أفغانستان وسوريا بعد 11 سبتمبر وانتفاضات “الربيع العربي”، ويطلق أيدي المتطرفين الإسرائيليين في مثل مستوطنات الضفة الغربية بغطاء نتنياهو، من دون قيود.

توارث غضب الأجيال

وقالت مجلة “فورين أفيرز” الأميركية في مقالة كتبها مجموعة من المتخصصين في العلاقات الدولية، إن “أقلية ضئيلة فحسب من الفلسطينيين قد تكون عازمة على قتل الإسرائيليين في أعمال إرهابية، بيد أن معظمهم يريدون أن يعيشوا حياة طبيعية. إذاً، يجب على إسرائيل ألا تزيد من تنفيرهم، فالاحتلال القاسي والعنيف لن يؤدي إلا إلى توليد مزيد من الاستياء. ربما يكون بعض الصبية الصغار الذين كانوا يبحثون في أنقاض غزة عن أشلاء أفراد عائلاتهم بعد الغارات الجوية الإسرائيلية عام 2014، قد كبروا ليكونوا من بين الشباب الذين قتلوا عائلات إسرائيلية في السابع من أكتوبر”.

ودعت تل أبيب إلى التعلم من تجارب أميركا الخاطئة بعد غزوها أفغانستان “في المقام الأول، يتعين على إسرائيل أن تعالج المظالم الأساسية والمشروعة التي تدفع إلى دعم حركة (حماس). وهذا يعني الجلوس مع السلطة الفلسطينية والتفاوض على حل سياسي لخلافاتهما. ومثلما كان من المفترض أن تتقبل الولايات المتحدة حقيقة أن حركة (طالبان) لديها دور تلعبه في مستقبل أفغانستان، يتعين على إسرائيل أيضاً أن تتخذ خيارات سياسية صعبة لإنهاء صراعها مع الفلسطينيين. وفي نهاية المطاف، هذه هي الطريقة الوحيدة لضمان سلامة البلاد”.

وتبرر تل أبيب تعاونها مع “حماس”، من دون الرجوع إلى السلطة الفلسطينية، بتشجيع الحركة وبقية الفصائل الرئيسة على تعديل نظرتها إلى دولة الاحتلال، والتوجه بالتدريج نحو الانخراط في التفاهمات السياسية، بعيداً من لغة المقاومة والسلاح، وفق المزاعم الإسرائيلية.

خطأ فادح و”رد رائع” منتظر

ويؤكد بيان أصدره معهد واشنطن للدراسات أن الإدارة الأميركية عليها مراجعة سياساتها بالانسحاب من المنطقة التي سمحت لإيران وأذرعها في المنطقة بالشعور بالراحة والجرأة على مهاجمة مصالح أميركا وحلفائها في المنطقة.

وقال البيان الذي وقعه أربعة من المتخصصين في المعهد “إن حقيقة أن أميركا تواجه تحديات استراتيجية عاجلة في مختلف أنحاء العالم لا تعني أننا نمتلك ترف التعثر في العمل الحيوي المتمثل في حماية مصالحنا في الشرق الأوسط، بخاصة أن موارد المنطقة ومركزيتها الجغرافية تؤثر في المنافسة العالمية الطويلة الأمد، وسواء أردنا ذلك أم لا، فإن الشرق الأوسط يتطلب منا الاهتمام والتركيز المستمرين”.

ويرون أن مفهوم “قوة الردع الأميركية” التي مست في المنطقة بسبب ما سموه “التعثر في حماية واشنطن مصالحها” يجب أن تستعيد زمام المبادرة، معتقدين أن “التوصل إلى اتفاق سلام سعودي – إسرائيلي بمثابة رد رائع على الإرهاب الإسلامي العدمي الذي ظهر، وعلى المستوى الثنائي، إذ لا يوجد بديل للدبلوماسية الإسرائيلية – الفلسطينية (وإن كانت) تبدو هذه العملية بعيدة المنال اليوم”.

ويسلط هذا النوع من التلاوم الأميركي مزيداً من الضوء على حقيقة أن المستفيد من الحرب الحالية هو إيران وإسرائيل معاً، على رغم محاولتهما صرف الأنظار عن سياسة تل أبيب التي وفرت ذرائع الهجوم وتكتيكات طهران التي فجرت الصراع.

وإذا كانت إسرائيل، وفق ما كشفت عنه وثائق استخباراتها المسربة، قامت عن عمد بتوفير الغطاء لـ”حماس” كي تمعن في الانقسام مع الضفة الغربية، تهرباً من الوفاء بالتزاماتها المنصوص عليها في اتفاق “أوسلو”، كما سبقت الإشارة، فإن إن إيران قامت على خطى سوريا حافظ الأسد من قبل بإشعال الأزمة، لإبطال حدوث أي اتفاق سلام نهائي بين إسرائيل وفلسطين.

وهو ما من شأنه لو حدث أن ينهي ذرائع “المقاومة” والممانعة في المنطقة، التي تتخذها إيران وقوداً لا ينضب لتوسيع هيمنتها، واستباحة ما استطاعت من الدول العربية في الإقليم، وتوظيفها في خدمة مشروعها الأيديولوجي، كما فعلت في كل من العراق ولبنان وسوريا وغزة، وحاولت أن تفعل في الكويت والبحرين وأجزاء من السعودية.

عرضة الاستغلال

لكن قوافل التجنيد لا تمنح عقلها فسحة للتفكير في تلك الوقائع وألاعيب السياسة خلف الستار إلا بعد فوات الأوان، فما دامت القضية فلسطينية تتعلق بالأقصى وأرض عربية وإسلامية محتلة، فإن دعمها بكل الوسائل ينبغي أن يكون من دون تردد، أو حتى تفكير، هكذا يتردد.

لهذا تدفع دول عربية تفطنت للذرائع الإسرائيلية والإيرانية، وأحياناً الأميركية مثل السعودية ومصر والأردن، إلى التعجيل بإبرام صيغة للسلام، تفضي إلى “حل الدولتين”، لأن قضية فلسطين ما دامت مفتوحة على كل الاحتمالات ستظل عرضة للتوظيف والاستغلال من كل أرباب المشاريع، من إيران إلى “داعش” و”القاعدة” و”حزب الله”، فضلاً عن إسرائيل التي كانت أساس المشكلة، وتتخذ من أي هجوم ذريعة تهجير وإبادة جماعية أو توسيع استيطان في أقل الأحوال، كما فعلت في كل الحروب والانتفاضات.

وتشير الإحصاءات الفلسطينية إلى وجود أكثر من 700 ألف مستوطن في القدس الشرقية وباقي الضفة الغربية المحتلة حالياً، مقارنة بنحو نصف مليون في عام 2010، ونحو 370 ألفاً في عام 2000، وذلك في وتيرة متسارعة، رآها وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي “غير مسبوقة، وتعمل على تقويض ممنهج لحل الدولتين”.

وأكدت المجموعة العربية أخيراً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أنه “من دون إيجاد أفق حقيقي لإنهاء الاحتلال ورفع الظلم وتحقيق السلام العادل الذي يلبي الحقوق وتقبله الشعوب على أساس حل الدولتين ووفق القانون الدولي، لن ينتهي تصعيد حتى يتفجر آخر، في دوامة لا نهاية لها من العنف، التي ستدفع المنطقة والعالم ثمنها”.