اعتقادي أن ذكرى وثوب حافظ الأسد إلى السلطة، في السادس عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني 1970، وتحويله سوريةَ إلى جمهورية رعب وراثية، ليست الوحيدة المؤلمة في تاريخ هذه البلاد. إذا كانت الأمور تُؤخذ بنتائجها، سنجد أن السياسيين الذين تعاقبوا على حكم سورية منذ الاستقلال، لم ينجحوا في إيجاد عقد اجتماعي، يضمن التداول السلمي للسلطة، ويُنهي عهود الانقلابات وحكم العسكر، ويحقن دماء أبناء الشعب، ويعطيهم شيئاً من الأمان والحرية والكرامة. لماذا لم ينجحوا؟ لأنهم، ببساطة، لم يريدوا ذلك، ولم يسعوا إليه.
لا بد أن يوصلك البحث في أسباب هذا الاستعصاء الحضاري إلى: أولاً؛ أن الشعب السوري، الخارج، في سنة 1918، من تحت الحكم العثماني الطويل، لم يكن يمتلك الوعي الكافي للاستفادة من ربع القرن الذي وقع خلاله تحت الانتداب الفرنسي، (1920- 1946). ثانياً؛ كان للضباط والزعماء المحليين الذين تعاقبوا على كراسي الحكم في سورية أيديولوجيات ومشارب وتوجّهات لا يهمّها حماية الشعب من العواصف العاتية، ولا مستقبل الشعب، بل كانوا يتصارعون من أجل السيطرة على الشعب نفسه، وفي سبيل ذلك، كانوا يقدّمون له ما يريده، ويهدهد معتقداته، وليس ما ينفعه. ثالثاً؛ هرب الجميع، في تلك الحقبة التاريخية المضطربة، من الواقعية السياسية، باتجاه الشعارات الإنشائية الخطابية، فسمّوا الانتداب الفرنسي استعماراً، وأضافوا إلى اسمه سلسلة من الصفات السلبية، مثل البغيض، والغاشم، وسارق ثروات الشعوب، وحثّوا أبناء الشعب على معاداته، والثورة عليه، وخوّنوا كل مَن ينظر إلى حقبته بموضوعية، وصنّفوا الذين واجهوه في خانة الأبطال، حتى ولو كان تاريخهم مليئاً بالمطبات الأخلاقية والسلوكية..
لهذا؛ يحتاج المرء إلى كثير من الشجاعة ليقول إن الفرنسيين تعاملوا مع سورية كما لو أنهم باقون فيها إلى الأبد، حاولوا أن يجعلوها نسخة مصغّرة عن جمهوريتهم، فساعدوا السوريين على إيجاد قوانين مدنية، ودائرة خاصة بالمساحة “كاداسترو”، وسجل عقاري “طابو”، وأحدثوا شركاتٍ لتصنيع الأقطان، ومؤسّسة لتصنيع التبغ والتنباك “الريجي”، ومدوا سككاً للقطارات، وشقوا طرقات بين المدن، وشوارع ضمن المدن، وأوجدوا نظاماً للمياه، والصرف الصحي، ونقلوا جانباً من ديمقراطيتهم إلى الواقع السوري، بدليل الحادثة التي عُرفت باسم “محاكمة إبراهيم هنانو”، 1921، فمع أن هنانو كان متّهماً بأعمال تمسّ أمن حكومة الانتداب، سمحوا له بتوكيل محام، ولم يمنعوا شعب حلب من التظاهر تأييداً لقضيته، وحاكموه علنا، والمحكمة الفرنسية برّأته من تهمة الإرهاب، وأخلي سبيله، وعاش بقية حياته في حلب، بأمان.
الأنظمة العسكرية الانقلابية المستبدّة التي تعاقبت على حكم سورية، منذ 1949، وبضمنها حافظ الأسد الذي قام بانقلاب على رفاقه بعثيي شباط 1966، الذين اشترك معهم في الانقلاب على بعثيي 8 آذار 1963، يعادي بعضها بعضا، ولكنها تتفق بشدة على معاداة فرنسا، وذمّ فترة الاستعمار الفرنسي، وقد ساهم المسرح السوري، والدراما السورية، في صناعة أكذوبةٍ ما فتئت تكبر، وتقوى، وتضرب شروشها في الأرض، أن كل بلاوي هذه البلاد، وهذا الشعب، مصدرها الاستعمار الفرنسي، وبعضهم أراد أن يتجنّب الملل الذي ينتج عن تكرار الفكرة، فقال إن سبباً آخر آذى بلادنا وشعبنا، ألا إنه الانفصال اللعين، 1961، فكأنّ سورية ولدت، يوم ولدت، متّحدة مع شقيقتها مصر، وبقيادة جمال عبد الناصر، وجاءت مؤامرة الانفصال، لتضرب هذه الوحدة في الصميم!
في سنة 2008؛ كان التلفزيون السوري بصدد إنتاج مسلسل كوميدي، يتألف من مقطوعات صغيرة، على غرار “بقعة ضوء”. محسوبُكم؛ قدمتُ مجموعة لوحات، تحدّثتُ في واحدة منها عن فتى غبي، دخل عالم السياسة من خلال الخطابات الإنشائية، فكبر، وأصبح شخصية مرعبة. الرقابة رفضت اللوحة. أحد المسؤولين قال لي: الحقّ عليك أستاذ خطيب، لو أنك جعلت أحداث اللوحة تجري على زمان فرنسا لمرّت لوحتك بسلام!