لا يدور الحديث في الوقت الراهن في الخطاب السياسي للقوى الفاعلة الأساسية في الحرب السورية فيما يخص مناطق الإدارة الذاتية عن القضية الكُرديّة، كقضية سياسيّة وأزمة تاريخيّة ما تزال قائمة ومُستمرة حتّى اللحظة. حيثُ إنَّها باتت لا تشغل حيزاً من الخطاب والقرار والنشاط السياسي لهذه القوى الفاعلة على الأرض السوريّة مِنذُ سنوات؛ وإنَّما فقط وفقط عن المسائل والتفاصيل المُتعلقة بمُحاربة تنظيم الدولة الإسلاميّة.
ازدادت في الآونة الأخيرة التهديدات التركيّة باجتياحٍ بريٍ في مناطق الإدارة الذاتية ذات الأغلبية الكُرديّة. حيثُ نفذت تركيا ضرباتٍ جويةٍ مُكثفة، وعمليات أخرى بالمدفعيّة الثقيلة، استهدفت من خلالها البنية التحتية الأساسيّة للمناطق الكُرديّة، بالإضافة إلى عمليات اغتيال نوعية.
ظهرت الولايات المتحدة الأمريكيّة في هذا المشهد بوصفها حليفة لقوات سوريا الديمقراطيّة، وأدانت الهجمات التركيّة، وحذرت تركيا من بدء عمليةٍ عسكريّة بريّة في مناطق شمال سوريا. بررت أمريكا رفضها للعملية العسكريّة التركيّة المُحتملة (على لسان عددٍ من ممثلي الإدارة الأمريكيّة الحالية) من خلال سرديّة مفادها: أي هجوم عسكري تركي في مناطق شمال شرق سوريا سيقوض جهود أمريكا والتحالف الدولي في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
وبالعودة إلى السرديّة الكُردية في سياق الهجمات والتهديدات التركيّة الأخيرة سنجد أنَّها هي الأخرى تشبه السرديّة الأمريكيّة إلى حدٍ كبير. حيثُ جاء على لسان الجنرال مظلوم عبدي عدة مرات قوله: أنَّ أيّة عملية عسكريّة بريّة تركيّة مُحتملة ستعيد تنظيم الدولة إلى الحياة مُجدداً. كما وأعلن تعليق العمليات المُشتركة مع التحالف إلى حين زوال الخطر التركي.
ولكن، ماذا تريد تركيا؟ يُمكن اختصار السرديّة التركيّة على الشكل التالي: قوات سوريا الديمقراطيّة جزءٌ من حزب العمال الكُردستاني، وكل نشاط كُردي في الشمال السوري تهديدٌ مُباشر للأمن القومي التركي. وعليه، لا بُدَّ من إبعاد هذه القوات، وتحطيم بناها وهياكلها الأساسيّة، والسيطرة على مناطق نفوذها بالقوة. وكل هذا لا يُمكن تحقيقه إلَّا من خلال القيام باجتياحٍ بريٍ موسع، وقد حان أوان هذا الاجتياح.
لفهم الأمور على نحو أفضل لا بُدَّ من العودة إلى التاريخ المُبكر قليلاً. تأسست قوات سوريا الديمقراطية عام 2015. قبل إعلان هذا الائتلاف العسكري المُوسع كانت أمريكا تُساند وحدات الحماية الكُرديّة في معارك كوباني (2014) ضد تنظيم الدولة. كانت أمريكا حينها على علم بأنَّه هُناك علاقاتٌ وطيدة تربط وحدات الحماية الكُرديّة بمنظومة قنديل أيديولوجياً، كما وعلى صعيد قيادة الحرب أيضاً. وهي الدولة التي تُصنف حزب العمال على لوائح الإرهاب منذ عقود. كذلك الأمر بالنسبة لتركيا، فهي الأخرى كانت على إطلاعٍ أيضاً بهذه العلاقة. ومع ذلك فإنَّها لم تُبدِ عن رغبتها يوماً في القيام باجتياحٍ بري (للمناطق الكُرديَّة بكل تأكيد) قبل العام 2018 (عام احتلال عفرين).
في هذه الفترة كان تنظيم الدولة الإسلاميّة في ذروة نشاطه العسكري، وكان قد حقق نجاحاتٍ كبيرةٍ في كُلٍ مِنَ العراق وسوريا. يبدو أنَّ الجهود الدولية (النشاط العسكري لأمريكا على وجه الخصوص في سوريا) في هذه الفترة كانت مُنصبّة على قضية محاربة داعش (التنظيم الإرهابي العابر للحدود الدولية). ولكن، ماذا عن القيادة الكُرديَّة؟
تعاونت القيادة الكُرديَّة مع التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكيّة لعدة أسباب، أهمها:
1. مُحاربة داعش لدواعي أمنية بالدرجة الأساس: حيثُ كان التنظيم يُهدد باجتياح مناطق كُرديَّة، وقد سبق له وأن بسط سيطرته الكاملة على مناطق أخرى غير كُرديَّة مُجاورة للمناطق الكُرديَّة (محافظات الرقة ودير الزور على سبيل المثال).
2. الوقوف إلى جانب قوة فاعلة دولية كبيرة كالولايات المتحدة الأمريكيّة لتأمين الدعم العسكري (التدريب، الأسلحة، وأمور لوجستية أخرى ضروريّة لقيادة الحرب).
3. حكم مناطق نفوذ داعش القديمة (الرقة وأجزاء من دير الزور)، وبالتالي توسيع المساحة التي تُسيطر عليها ضمن سوريّا.
4. التحول إلى سلطة أمر واقع مُؤثرة في مرحلة ما بعد الانتصار على داعش ضمن الجغرافية السوريّة. حيثُ صارتا قسد (القوة العسكرية، والجيش شبه النظامي) والإدارة الذاتيّة (إدارة مدنية حاكمة من صنف الهياكل الموازية للدولة) هيكلان لا يُمكن تجاهلهما في سياق أي حلٍ سياسيٍ شاملٍ للحرب السوريّة.
5. كما ولترسيخ الهيمنة الحزبيّة لمنظومة قنديل على حساب التأثير القادم من أربيل.
ولكن، ما يزال السؤال الأهم قائماً. فمن الثابت أنَّ الأطراف الثلاثة كانوا على درايةٍ كافيةٍ بطبيعة العلاقة التي تربط كل طرف بالآخر ضمن سياقٍ وتركيبةٍ مُعينة. فأمريكا تريد التخلص من الإسلام السني الأصولي (حيثُ التحق المؤمنون بفكرة الدولة الإسلاميّة من مُختلف دول العالم بتنظيم الدولة) بمُساعدة قوات مُشاة على الأرض (المُقاتلات والمُقاتلون الكُرد). وكانت تعلم جيداً أنَّ لهذه القوات علاقةٌ وطيدةٌ بقنديل، إلَّا أنَّها لم تعر ذلك أي اهتمام يُذكر. فالغاية كانت تبرر لها وسيلتها تلك في تلك المرحلة على وجه الخصوص، وفي ذلك السياق، وضمن الظروف التي كانت سائدة آنذاك. أمّا تركيا فقد كانت تُراقب وتُتابع التطورات في سوريّا بشكل جيد، كما وكانت تعلم جيداً أنَّ القوات التي تدربها وتمولها وتدعمها وتتعاون معها واشنطن هي قوات كُرديّة تربطها بقنديل علاقات وثيقة. إلَّا أنَّها ومع ذلك غضت النظر عن ذلك، وانتظرت حتّى تنتهي أمريكا (حليفتها في حلف الناتو) مِمَّا هي فيه. كما أنَّ تركيا لم تكن تريد أن تُشارك في العمليات القتالية ضد داعش. بل على العكس تماماً، فكل من استطاع الوصول من الخارج إلى سوريا من أجل الانضمام لداعش قد جاء عن طريق تركيا. أي أنَّ تركيا كانت تمثل البوابة الرئيسية لجميع الوافدين. كذلك الأمر لم تجد تركيا نفسها مُضطرة لأن تخوض حرباً ضد داعش، وتخسر جنودها. فهُناك من يقوم بتلك المهمة على نحو جيد.
أمّا الآن فقد اختلفت الأمور بالنسبة للرئيس التركي. فهو يريد القضاء على الوجود الكُردي بسوريا، حيثُ يرى أنَّ العرب مناسبون أكثر للعيش في المناطق الكُرديّة، إذ أنَّ هذه المناطق لا تُناسب نمط معيشة الكُرد. بالإضافة إلى أنَّه يريد إلهاء الداخل التركي “بخطرٍ قادمٍ من الخارج”، تزامناً مع اقتراب موعد الانتخابات. وأردوغان لم يصل بعد إلى مرحلة القذافي أو الأسد أو صدام حسين. فهؤلاء لم تكن الانتخابات تهمهم كثيراً، ولم تسبب لهم في يومٍ من أيام حكمهم الطويل أيَّة متاعب تُذكر. فهي كانت شكليّة ومضمونة النتائج. أمّا في تركيا فالأمر مُختلفٌ تماماً. إذ ما تزال الانتخابات نزيهة إلى حدٍ كبير، كما وهُناك تنافسٌ حقيقيٌ بين المرشحين والأحزاب.
كما وهُناك صراعٌ أيديولوجي في تركيا. فأردوغان يريد التأسيس لهيمنة ذات طابع إسلامي سني (التركيّة الخضراء) على حساب الهيمنة الأتاتوركيّة الحالية التي تحكم الجمهوريّة منذ تأسيسها مطلع عشرينيّات القرن المُنصرم.
بطبيعة الحال يُمكن فهم الأمور ضمن هذا السياق من وجهة نظر كُرديّة بشكلين مختلفين: من جهة يُمكن اعتبار مساعي أردوغان ومشروعه جيداً ومفيداً للجانب الكُردي. فهو إذ يُريد من خلال مشروعه هذا ضرب الأتاتوركيّة المسؤولة عن مأساة الكُرد لقرنٍ من الزمن في ظل الجمهوريّة. فالأتاتوركيّة هي التي عملت على إبادة الكُرد جسدياً وثقافياً. أمّا من جهة أخرى فيُمكن اعتبار التركيّة الخضراء أيضاً الخطر الجديد القادم، فهي أيضاً مُعادية للكُرديّة، إلّا أنَّها لن تتحقق إلّا بعد خوض صراعٍ مريرٍ مع الأتاتوركيّة الراهنة. وفائدة الكُرد تكمن في تطور وازدهار هذا الصراع، الذي لن يحصل إلّا ببقاء واستمرار أردوغان في العبث بأسس الجمهوريّة. أي أنَّه هُناك علاقةٌ طردية بين بقاء أردوغان (عدو الأتاتوركيّة) ونشوب هذا الصراع. كما أنَّ الكُرد لن يخسروا شيئاً في خضم هذا الصراع. فهم ضحايا الأتاتوركيّة منذ قرن، وانهيار هذه المنظومة الأيديولوجية سيلحق الضرر بالمستفيدين منها وحسب.
الآن، وبالعودة إلى موضوعنا الرئيسي فيما يتعلق بالهجمات التركيّة الأخيرة نجد أنَّ الأطراف الثلاثة كانوا على علم بما يفكر الآخر به، ويُخطط له. أي أنَّ القيادة الكُرديَّة كانت تعلم جيداً أنَّه سيأتي ذلك اليوم الذي تبدأ فيه تركيا بشن هجوم على مناطق كُرديَّة بحجة أنَّها مُرتبطة بحزب العمال. كذلك الأمر، كانت تركيا أيضاً تعلم أنَّ مرحلة ما بعد الانتصار على داعش ستشكل للكُرد بشكل عام وللقيادة الكُرديَّة الحالية على وجه الخصوص فرصة لفرض أنفسهم، وتثبيت أقدامهم أكثر فأكثر؛ الأمر الذي حدث بالفعل. أمّا أمريكا فقد كانت هي الأخرى تعلم بشكلٍ جيد أنَّه لا بُدَّ أن ينشب نزاع بين الحليفين (تركيا حليفة الأمريكان في حلف الناتو؛ والكُرد حلفاؤهم في الحرب ضد تنظيم الدولة). الأمر الذي لم يؤدِ إلى حسم الخلاف بشكل جذري. فالطرف التركي مُصرٌ على أنَّه لا وجود لحل سوى الحل العسكري. أمّا القيادة الكُرديَّة الحالية فتحاول جاهدة الحفاظ على مكتسباتها التي حققتها حتّى الآن، وتأمل أن تستمر واشنطن في دعمها. أمّا أمريكا فتبدو غير مهتمة بحل الأزمة وإنَّما فقط بتأجيلها والاستمرار في إدارتها بما ويتوافق مع مصالحها السياسيّة السلطويّة. ولا يدور الحديث في كل ما يحدث عن القضية الكُرديَّة وإنَّما – فقط وفقط – عن محاربة الإرهاب العالمي المُتمثل بداعش.
وبالنظر إلى كل ما سبق يُمكن لنا صياغة مجموعة من التساؤلات الافتراضيّة:
أولاً: ماذا لو انتهت داعش؟ هل ستغادر أمريكا، وتتركنا فريسة سهلة للعدوان التركي؟
ثانياً: ما الذي يُمكن أن يحدث في حال أبدت تركيا عن استعدادها لإدارة سجون مقاتلي داعش ومخيم الهول بالشكل الذي تريده الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون؟ مُقابل أن تستغني أمريكا عن خدمات الكُرد، وتترك أمرهم لتركيا.
ثالثاً: في حال استمرت الحرب السوريّة لفترة أطول، وتبين أنَّه لا وجود لحل سياسي سلمي في الأفق القريب بسبب تضارب المصالح الكثيرة ومن بينها مصالح تركيا. فما الذي يضمن ألَّا تفقد أمريكا اهتمامها بالأزمة السوريّة، وتغادر سوريا كما فعلت في أفغانستان؟
رابعاً: من الثابت أنَّ القضية الكُرديَّة مُهمّشة ومُهملة في سياق التطورات الكبيرة الحالية، وحيثُ أنَّ وضع الكُرد – من وجهة نظر أمريكا – مرتبطٌ بمحاربة داعش وحسب، فما هو أقصى ما يُمكن أن يحصل عليه الكُرد لقاء ما قدموه حتّى الآن فيما يخص محاربة داعش؟ إذ أنَّ محاربة داعش لا تُشكل قضية سياسيّة، فهي مُجرد عملية عسكريّة بحتة.
من المُمكن أيضاً أن تسير الأمور على نحو مُختلف. ولعل أنَّ أكثر السيناريوهات واقعيّة هي أن يتمكن الكُرد من الاستمرار في حكم وإدارة مناطقهم الحالية مع احتمال حدوث تغيُّراتٍ طفيفة. حيثُ تُعتبر القيادة الكُرديَّة الحالية في سوريا قوة فاعلة محلية ذات تأثير لا يُستهان به. فهي تعمل على مُختلف الصعد، ومع مجموعة واسعة من الأطراف، وتقوم منذ سنوات بتجربة كل الطرق والسبل لتحقيق ما تريد.
فهُناك علاقةٌ جيدةٌ تربطها بدمشق من جهة، كما وتُمارس نوعاً من الضغط على واشنطن والغرب من خلال ملف داعش والمُعتقلين، والمجموعات البشرية التي تديرها في مناطق سيطرتها (خمسة ملايين نسمة). فأمريكا مُهتمة بداعش، والغرب خائفٌ من نشوب حرب جديدة وبالتالي موجة لاجئين جديدة. كما وأنَّها (القيادة الكُرديَّة الحالية في سوريا) تعمل على تشكيل جسم معارضة جديد للتفاوض بشأن مُستقبل سوريا، وتملك مشروعاً جاهزاً لشكل الدولة والحكومة (سوريا لامركزيّة ديمقراطيّة). كما وقد أبدت مؤخراً عن استعدادها لخوض حرب شاملة على طول الحدود السوريّة-التركية في حال حدوث اجتياح بري. الأمر الذي سيدفع بجميع الأطراف (ليس أمريكا وحسب) للوقوف في وجه التهديدات التركية، ومنع حدوث أي اجتياح. فأي مواجهة عسكريّة جديدة ستخلط الأوراق من جديد، وستساهم في تعقيد الحل السياسي المأمول وفق القرار الدولي الخاص بسوريا على نحو كبير، كما وستخسر تركيا من جراء ذلك كثيراً. فكل ما قامت به تركيا حتّى الآن (احتلال عفرين، سري كانيه وتل أبيض) وتنوي القيام به (اجتياح واحتلال مناطق إضافية) مخالفٌ للقانون الدولي، ومشابهٌ لحدٍ كبير لما قامت به روسيا مؤخراً (ضم خمس محافظات أوكرانية للأراضي الروسية). كما وأنَّ قضية إعادة ترتيب الحدود من جديد لن تكون في يد تركيا؛ فالقوى الكبيرة لن تسمح لتركيا بالعبث بالحدود التي وُضِعَتْ قبل مئة عام في هذه البقعة الجغرافية من العالم (الشرق الأوسط)، بل على العكس تماماً، فستتأثر تركيا كما الدول الأخرى في المنطقة بالحدود والخرائط الجديدة.