تحدّث الأسد كثيراً عن “دولة المؤسسات” وضرورة التكامل في ما بين تلك المؤسسات، ووجوب تحميل المسؤولية لمن يجب أن يحملها، وأهمية الرقابة ومساءلة من يخفق في تحقيق الأهداف المشتركة، التي يجب أن تكون موضوعة على أساس سياسي قابل للتطبيق، لا رغبوي أو فردي.
لم يعتد السوريون على رؤية بشار الأسد والاستماع إليه لفتراتٍ طويلة. إذ عُرف عن الرئيس “الشاب” (58 سنة) مذ تولّيه الحكم عام 2000، ظهوره الإعلامي القليل والمتقطع مقارنةً بنظرائه، خصوصاً خلال سنوات اشتداد الحرب، فاقتصر ظهوره على خطاب أو كلمة أو مقابلة كل سنة أو سنتين. كيف لا وهو الذي يؤكد في كل ظهور له، مهما كان سياقه، أهمية تقديم الأفعال على الأقوال!
يبدو أن شيئاً من هذا بدأ يتغير، ففي السنة الأخيرة فقط، ظهر الأسد في مقابلة مع صحافي روسي مقرّب من الكرملين وأخرى مع وزير الخارجية الأبخازي، وألقى كلمةً أمام أعضاء حزب “البعث” وتحدث للصحافيين على هامش مشاركته في انتخابات مجلس الشعب، وعاد لإلقاء كلمة لم يُعلن عنها مسبقاً أمام أعضاء المجلس يوم الأحد 25 آب/ أغسطس، والتي، وإن كانت روتينية مع كل “دور تشريعي” للمجلس، إلا أنها حملت في طياتها رداً على بعض “التقارير الصفراء” التي أفادت بهروب الأسد ومكوثه في روسيا منذ زيارته الأخيرة إلى موسكو.
والأخير ليس تكهناً بقدر ما هو امتداد لتغيرات في سلوك الأسد، بدأت تُظهر اهتمامه بالـ “Show” والـ “العلامة الشخصية” وحرصه على إيصال رسالة مفادها أنه يقرأ ويشاهد ما يُكتب ويُنشر. بدايةً من الصورة الحميمية الشهيرة لعائلة الأسد في سهرة عائلية لطيفة، التي ضمت شخصيات نادرة الظهور كشقيقه ماهر وعمّه رفعت، والتي نُشرت تماماً مع انتهاء عرض مسلسل “ابتسم أيها الجنرال” الذي تناول صِدامات العائلة الداخلية، وليس انتهاءً بتكراره تعبير “كي لا يُفهم من كلامي كذا” ثلاث مرات في كلمته الأخيرة.
والحال أنه مهما ظهر وتحدث إلى مختلف “الجماهير” وعبر مختلف الوسائط، يبقى الخطاب في مجلس الشعب الفعل المحبَّب للأسد، إذ يمكن اعتباره أشبه بأداء “على أرضه وبين جمهوره”، الذي أكَّد له، منذ ثلاثة عشر عاماً، أن سوريا قليلةٌ عليه ويستحق أن يحكم العالم.
إقرأوا أيضاً:
الانتخابات السوريّة انتهت… ما الذي تعلّمناه من النتائج؟
الأسد يقرّع من مجلس الشعب؟
لكن هذه المرة، جاء الأسد إلى مجلس الشعب بصفته “سلطةً تنفيذية” لا تعيّن الأعضاء “المُنتخَبين” مسبقاً، ولا توعز بالتعميمات إلى مراكز الاقتراع بالأسماء الرابحة، ولا تترأس ثلثي الأعضاء الجالسين من خلال “الجبهة الوطنية التقدمية”، بل مجرد سلطةً تعمل على تحويل قرارات مجلس الشعب إلى سياسات وخطط يعمل على إنجاحها رفقة الحكومة. والحقيقة أنه أمضى 38 دقيقة من خطابه الذي بلغت مدته 53 دقيقة، في “تقريع” الأعضاء وتذكيرهم بأن حصانتهم هي مسؤولية وليست امتيازاً، والتحدّث أكثر مما ينبغي عن فشل المجلس في أداء مهامه، أكثر من الحديث عن الانتصارات على المؤامرات الكونية وموقف سوريا الراسخ ومبادئها الوطنية أمام المشروع الغربي.
تحدّث الأسد كثيراً عن “دولة المؤسسات” وضرورة التكامل في ما بين تلك المؤسسات، ووجوب تحميل المسؤولية لمن يجب أن يحملها، وأهمية الرقابة ومساءلة من يخفق في تحقيق الأهداف المشتركة، التي يجب أن تكون موضوعة على أساس سياسي قابل للتطبيق، لا رغبوي أو فردي.
واستفاض أيضاً في الحديث عن السياسات الداخلية، وضرب بعض الأمثلة عن قوانين الدعم الاجتماعي والتعليم العالي وغيرها من المواضيع، التي لم يعتد أعضاء المجلس التشريعي الأكبر في سوريا على سماعها، فأظهرت اللقطات الخاطفة لهم خلال ذاك الجزء من الخطاب، الكثير من التثاؤب والنقر على الطاولة والتأمل في الأصابع وتعديل الثياب، الى درجة أن الأعضاء لم يصفقوا طوال الـ 38 دقيقة تلك إلا ثلاث مرات، وهو مُعدَّل تصفيق مقلق لكل من يعرف البرلمان الأقدم عربياً!
استمر ذاك الجو المشحون إلى أن بدأ الأسد حديثه عن فشل المشروع الصهيوني، وتعثر مشروع “نهاية العالم” الذي يطمح فيه الغرب الى أن يسود فكرياً وسياسياً على حساب الدول ذات السيادة؛ والتي تعد سوريا التي تحتضن على أرضها أربعة جيوش نظامية وعشرات الميليشيات واحدة من أبرز أمثلتها، فانتصبت الظهور وتوسّعت الحدقات لدى المستمعين، وعاد الخطاب إلى منطقة الراحة.
سمع أعضاء مجلس الشعب أخيراً ما أتوا لسماعه، فسياسات الدعم مثلاً ليست بطبيعتها محل اهتمام رجال أعمال من أمثال بلال النعّال ومحمد حمشو، وحمّودة الصباغ الذي يترأس المجلس للمرة الثالثة على التوالي، لن يرغب في سماع حديث إخفاقات المجلس. عاد السيد الرئيس لتعريف المصطلحات وإيضاح ما يجب علينا معرفته أولاً، ووضع المسمّيات في سياقها التاريخي، فحصل على سبع جولاتٍ من التصفيق خلال خمس دقائق فقط من هذا الحديث.
وفي الدقيقة 48، وعند حديث الأسد عن المصالحة المحتملة مع تركيا، وتأكيده أن مطالبات سوريا في هذا السياق تنطوي على حقوق الدول، وأن سوريا التي تحتضن على أرضها أربعة جيوش نظامية وعشرات الميليشيات، مجدداً، لم تتخل عن أيّ من حقوقها، فلم يستطع البرلمانيون ضبط أنفسهم أكثر من ذلك، ولم يُشبع التصفيق الحار اليوفوريا الداخلية، فراحت تصدح حناجرهم بـ “بالروح بالدم نفديك يا بشار”، الشعار شبه الرسمي للمجلس، وعاد المشهد إلى شكله المعتاد.
شهدت الدقائق الخمس المتبقية من الخطاب سبع جولاتٍ أخرى من التصفيق، اثنتان منها لم يفصل بينهما سوى ست ثوانٍ، كيف لا وهو يتحدث عن صمود الجولان الذي قُتل فيه منذ أقل من شهرٍ 12 طفلاً من أبنائه، لم تكن أرواحهم كافية لنشر الرئاسة مجرد بيان “شجب واستنكار” كي لا تُطالب بأكثر من طاقتها وتعلن الحداد.
تذكر كتب التاريخ أن نيرون طاغية روما، أسسّ مدرسة خاصة لتعليم أصول التصفيق، وأنه كان يأمر ما يقرب من خمسة آلاف فارس وجندي من أفراد الجيش، بحضور الحفلات التي كان يغني فيها، وهو يعزف على القيثارة، ليصفقوا له بعد أن ينتهي من الغناء والعزف. وبعد أكثر من نصف ساعة من عدم الراحة والتذكير بأنه وحده السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، عزف الأسد على الأوتار المحببة لمسامع الأعضاء، مؤكداً لهم أن المآزق يمكن أن تقبع تحت هذه القبة، وحينها لن يكون المخرَج منها إلا بالتصفيق.