عمّار الجندي
أخيراً فعلتها غزة!
 لقد أطاحت سويلا برافرمان وزيرة الداخلية التي تجنّت عليها. وحققت إصابة مباشرة ضد المؤسسة البريطانية المحافظة والشارع العنصري عموماً الذي كان ولا يزال يتغنى بمواقف برافرمان المتطرفة.
لم تفاجئ إقالتها أحداً. لا بل تعجب كثيرون لماذا صبر عليها ريشي سوناك رئيس الوزراء لأكثر من سنة، مع أنها لم تكد تنتهي من إثارة مشكلة بتصريح أخرق حتى أضرمت حريقاً جديداً بتعليق عنصري أطلقته من دون أي اعتبار لسوناك الذي سببت له ما يكفي من الصداع، أو لغيره.
وهي كتلة من التناقضات. زوجها يهودي، وتدعي التعاطف مع اليهود الذين يأتون في المرتبة الثانية، بعد المسلمين، بين المجموعات التي تعرضت للإساءة على يديها! والداها مهاجران، ولون بشرتها يشي بأصولها الأفريقية – الهندية. غير أن أياً من وزراء الداخلية البريطانيين المعاصرين لم يقسُ على المهاجرين ولم يسعَ إلى إلحاق أشد الضرر بهم كما فعلت هذه المهاجرة! ثم إنها قضت فترة من عمرها في الدراسة في فرنسا وتعتبر فرانكوفونية. مع ذلك فهي من أكثر المحافظين تشدداً في عدائها لأوروبا.
راح بعض نواب حزب المحافظين الحاكم يتبادلون التهاني برحيلها. إلا أن نبأ الإقالة قوبل بارتياح من جانب أصدقائها القليلين، ممن اعتبروا أن هذا ما كانت برافرمان تريده، لكي تبدأ الاستعداد لمعركة انتخابات الزعامة التي خيبت أملها مرتين.
والحق أن القائمة الطويلة لمخالفاتها تحمل المرء على التكهن بأنها ربما كانت تريد من سوناك أن يعزلها حتى تصبح “شهيدة” في عيون اليمينيين المتشددين، ما سيقوي حظوظها باقتناص الزعامة. وفعلاً قد يصعب تصديق أن صاحبة المنصب الوزاري السيادي الثالث في البلاد تتجرأ على مهاجمة شرطة لندن لأسباب أيديولوجية بحتة في مقالة نشرتها قبل أيام، في الوقت الذي أهانت فيه من يخالفونها الرأي بتوصيف تظاهرتهم المؤيدة لفلسطين بأنها “مسيرة كراهية”.
والأفظع أنها لم تأخذ موافقة رئاسة الوزراء على المقالة كما تجاهلت تعديلات قام بها مكتب سوناك! عضّ الزعيم على الجرح مراراً في الماضي. فهي تحدثت مرة عن “غزو” المهاجرين وطالبي اللجوء بريطانيا وهاجمت في مناسبة أخرى ما سمته “الماركسية الثقافية”، وهو تعبير متطرف يستخدمه اليمين المتطرف المعادي للسامية. وفي الحالتين أحرجت الحكومة وأغضبت كثيرين بينهم يهود ناجون من المحرقة انتقدوها لاستعمال عبارات درج النازيون على استخدامها. ثم اعتبرت أن المهاجرين يمثلون “تهديداً وجودياً” لبريطانيا والغرب عموماً، وهذا ما يزعمه عتاة العنصريين في بريطانيا وخارجها، كما اتهمت الباكستانيين في بريطانيا بتشكيل عصابات هدفها الإيقاع بمراهقات إنكليزيات بيض البشرة واغتصابهن. وهذه عين التهمة العنصرية الكاذبة التي يلوح بها تومي روبنسون وأمثاله ليل نهار، رغم أن كل الأدلة تؤكد أنها محض افتراء.
وتحمل سوناك ما لم يحتمله أي رئيس وزراء سابق من وزير داخليته، له سببان أساسيان. الأول أنه وعدها بالمنصب إذا دعمته في انتخابات زعامة المحافظين، ولم يشأ أن يحنث بوعده. والثاني والأهم هو أنه أراد صوتاً يمينياً في مجلس وزرائه بادئ الأمر، ولما وجدها طموحة أكثر مما ينبغي ازداد تشبثاً بها لكي يبقيها تحت سيطرته النسبية.
فهل تغيرت قواعد اللعبة حينما تحدته مباشرةً، أم أن رئيس الوزراء بات متأكداً، بسبب استطلاعات الرأي ونتائج الانتخابات الفرعية، من أن إقامته في 10 داونينغ ستريت لن تطول، فقرر المجازفة بعزلها؟ ومن غير المستبعد أن يدرك رئيس الوزراء أن الهزيمة تلوح في الأفق، كما أوضح جون ميجور، رئيس الوزراء المحافظ الأسبق في مذكراته عن أواخر عهده.
وربما لم يعد يخشى انتقامها، فهو رأى مدى تخبطها وإساءاتها وإخفاقها في إدارة الملفات الأساسية، وفي طليعتها الهجرة والزوارق الوافدة عبر القنال الإنكليزي. فقد تعهدت تحقيق نتائج ملموسة في هذين الملفين إلا أن وعودها ذهبت أدراج الرياح. لذا لعله أدرك أن الوزيرة الفاشلة قد تسبب قدراً من الإزعاج إذا خسرت الحكومة الدعوى بشأن ترحيل طالبي اللجوء إلى أوغندا يوم الأربعاء المقبل. لكن ما يمكن أن تفعله سيكون عبارة عن زوبعة في فنجان. مارغريت تاتشر نفسها، وشتان ما بينها وبين برافرمان، لم تستطع أن تُسقط ميجور الذي خلفها على الزعامة، وإن أزعجته. وينطبق الشيء ذاته على تيريزا ماي وبوريس جونسون الذي أسقطها عملياً.
سجل برافرمان مخجل. ولم يكن أصلاً من الحكمة أن يعطيها سوناك المنصب الذي أخرجتها منه ليز تراس لارتكابها مخالفة لا يمكن تجاهلها. وتنحصر إنجازاتها في كونها أول سياسي بريطاني يُطرد مرتين في نحو سنة من منصب بمستوى وزير الداخلية!
لكن لا بد من القول إن بيوت جميع المحافظين ممن سبقوها إلى هذا المنصب منذ 2010، من زجاج. صحيح أنها أسوأ منهم، إلا أنها لم تبتكر قوانين “البيئة المعادية” ولا حرمت الزوجين من العيش في بريطانيا إن كان أحدهما أجنبياً، وهذان قانونان فريدان ابتكرتهما تيريزا ماي حين كانت وزيرة للداخلية.
وقد لا تستطيع برافرمان إيذاء سوناك. إلا أن عزلها سيؤدي إلى إرباك واضح. فجيمس كليفرلي، وزير الخارجية السابق، كان راغباً في منصبه. ووصل به الأمر إلى الإعراب علناً عن ذلك وهو شيء غير مألوف من وزير كبير عشية إجراء تعديل وزاري. فهل سيستطيع قيادة الداخلية بمعنويات متدنية، وهي الوزارة التي قيل إنها تغص بالمشاكل ما يجعل ممراتها مفخخة بالديناميت؟
من ناحية ثانية، كيف اختار رئيس الحكومة الذي وصل إلى القمة على جناح البريكست، وزيراً جديداً للخارجية هو ديفيد كاميرون رئيس الوزراء الأسبق المعارض بشدة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟ معروف أن بين البريكست وكاميرون علاقة استثنائية. فهو من سمح، مضطراً، بتنظيم الاستفتاء على بقاء البلاد في الاتحاد الأوروبي. لذا يعتبر مسؤولاً في رأي العديد من الناس بشكل ما عن كارثة البريكست، كما أنه في الوقت ذاته الضحية الأولى التي تدحرج رأسها جرّاء البريكست!
وقد فاحت أخيراً منه رائحة صفقات وسمسرة سعى إلى تمريرها لقاء أجور سخية. ويفترض أنه توسط لدى سوناك حين كان وزيراً في سياق ذلك. ثم إنه كان بعيداً من معترك السياسة لـ8 سنوات، منهمكاً في نشاطات تجارية شتى، ما يعني أنه قد لا يستطيع التأقلم بسرعة والتعامل مع وجوه جديدة.
بيد أن لالتحاقه بالحكومة جوانب إيجابية إضافية كما يبدو. ففضلاً عن خبرته الواسعة في التحرك على المسرح العالمي، يعتبر رئيس الوزراء الأسبق من أصدقاء إسرائيل الخلّص. وتساءلت صحيفة إسرائيلية في 2014 عما إذا كان “أكثر رئيس وزراء بريطاني مؤيد لإسرائيل على الإطلاق”. فهل سيفيد كاميرون سوناك، أم سيكون منافساً من الوزن الثقيل في الوقت الذي يستعد وزراء آخرون لتحديه؟