كان وما يزال ترتيب الفوضى في العالم يعني تأسيس الدول بالضرورة، وبالأخص الدول القوميّة في العصر الحديث. تأسيس دولة ذات سيادة، والتي بمقدورها احتكار العنف (العنف الفيزيائي). حتَّى يتم تأسيس مثل هذا النوع من الدولة كان ينبغي بالضرورة طمس وملاحقة أيّة طموحات “دولتيّة” لدى المجموعات الاجتماعيّة الأصغر. أي تم تبني القاعدة القائلة: أنَّه يُسمح للدولة فقط باحتكار العنف، وهي وحدها من لديها الشرعيّة في مُمارسة وتطوير هذا العنف. أمّا كل القوى الفاعلة الأخرى غير الدولتيّة فلا يُسمح لها بمُمارسة العنف مهما كانت صفتها، كما ويحق للدولة ضربها، والنيل منها، وإعادة دمجها في هياكل الدولة في حال “تمردت” تحت أي مفهوم (الثورة، العصيان، طموحات تقرير المصير).
في سوريا اليوم اختلف الأمر كثيراً. كيف؟ ما عاد يُنظر إلى النظام السوري على أنَّه يُمثل الدولة (الدولة السورية)، إذ يُعتبر بسبب الحرب بسوريا فاقداً للشرعيّة، وبالتالي لحقه في احتكار ومُمارسة العنف. ظهرت إلى جانب النظام السوري قوى فاعلة أخرى كثيرة: أولاً: غير دولتيّة (الفصائل المُسلحة على اختلاف توجهاتها وتحالفاتها وطموحاتها)، ثانياً: موازية للدولة (كالإدارة الذاتيّة الكُرديَّة)، ثالثاً: وأخرى عابرة للحدود الدولية لسوريا كتنظيم داعش على سبيل المثال.
النظام السوري ما يزال مُتمسكاً بالقاعدة القديمة وهو أنَّه يُمثل الدولة، وسيادتها، وأنَّه يحق له وحده احتكار العنف ومُمارسته. لذلك يحاول ضرب المُعارضة المُسلحة بشتى الطرق، ونزع سلاحها. كما ويطلب من الإدارة الذاتية أنَّ تصير جزءاً من الدولة لا موازيةً لها، ومن قسد جزءاً من الجيش لا موازياً له.
ما تزال المُعارضة السوريّة تدافع عن نفسها ضد النظام بمُساعدة تركيا، إلَّا أنَّ تركيا اتخذت المعارضة كأداة وما تزال لخدمة سياساتها التوسعيّة، ومصالحها السلطويّة في المنطقة. لذلك، فليس من المُتوقع في ضوء التطورات المُستمرة أن تستطيع المُعارضة الثبات، والدفاع عن نفسها، والمقاومة أكثر من هذا، وستتحول مُستقبلاً إلى عاملٍ مُزعزعٍ للاستقرار بعدما كانت قوة ثوريّة. إذ أنَّ كل المجموعات الخارجة عن القانون باتت تلجأ لمناطق المُعارضة الرئيسيّة وعاصمتها إدلب بحجة أنَّها مُعادية للنظام، وثوريّة.
أمّا القيادة الكُرديّة الحالية فقد أبدت عن استعدادها لأن تكون جزءاً من الدولة (رفض الانفصال)، وأن تكون قسد جزءاً من النظام، ولكن بشروط:
1. تغيير شكل الدولة: من دولة مركزيّة يحكمها حزبٌ واحد إلى دولة لامركزيّة ديمقراطيّة ذات نظام مُتعدد الأحزاب.
2. منح الإدارة الذاتية وضعاً خاصّاً في البلاد.
3. منح قسد وضعاً خاصّاً في الجيش.
يبدو أن الكرة في ملعب النظام السوري أكثر مما هي لدى القوى الفاعلة الأخرى، التي تبدو غير مُستقرة، ومُستقبلها غير واضح في ظل التطورات الأخيرة المُتسارعة (الانفتاح العربي على دمشق، والتطبيع التركي الأخير). ولكن، إصرار النظام رغم كل ما فعله خلال سنوات الحرب (جرائم الحرب) على أنَّ الحل يكمن في إعادة بسط سيطرته الكاملة على عموم سوريا يُعرقل، ويؤخر الحل السياسي الشامل في البلاد كثيراً. لا يُمكن لسوريا أن تعود كما كانت عليه قبل العام 2011. هذا أمرٌ لم يفهمه النظام السوري بعد، أو بالأحرى لا يريد فهمه.
ما أخشاه هو أن يفرض النظام السوري نفسه أمراً واقعاً من جديد، ويقضي بالتالي على طموحات، ومشاريع المجموعات الأخرى غير الدولتيّة، أو يُنتج منها نسخاً مشوّهة بعيدة كل البعد عن تطلعات المُجتمع السوري في الحرية والمساواة، وتطلعات الشرائح المُجتمعيّة السوريّة المتنورة غير المُحددة بهُوية مُسبقة التعريف (سواء كانت هُوية عرقيّة، أو دينيّة، أو طائفيّة، أو أيديولوجيّة مُغلقة ذات لون واحد)، والتي تعيش خارج فضاء قوى الأمر الواقع هذه.