ملخص
بعد وصول شي جينبينغ إلى السلطة، أطلقت الصين حملة مكثفة لمكافحة الفساد، استهدفت شخصيات بارزة. وأسهم الفساد، خاصة بين المسؤولين الأعلى رتبة، بصورة كبيرة في تعميق الفجوة بين الأثرياء والفقراء. الحملة، على رغم انتقاداتها، قد تسهم في تقليص التفاوت في الدخل في المجتمع.
بعد وصول الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى السلطة عام 2012، أطلقت حكومته حملة واسعة لمكافحة الفساد جذبت انتباه العالم بسبب نطاقها وتصميمها. ودينت شخصيات قوية، لطالما اعتُبرت لفترة طويلة لا تُمَس، بالرشوة أو بإساءة استخدام الأموال، وسُجنت. وعززت هذه العقوبات في البداية الانطباع بين بعض المعلقين بأن شي قد يستخدم المبادرة لتهميش خصومه السياسيين أو اضطهادهم. لكن الجهود الرامية إلى استئصال الفساد تمضي إلى ما هو أبعد من السياسات الخاصة بالسلطة الشخصية. وتُعَد هذه الحملة، التي أجرتها اللجنة المركزية لفحص الانضباط، وهي جهاز تابع للحزب الشيوعي الصيني، أكبر حملة لمكافحة الفساد في التاريخ في أي مكان في العالم. وبحلول مايو (أيار) 2021، أي بعد مرور 10 أعوام تقريباً على بدء الحملة، كانت اللجنة قد حققت مع أكثر من 4 ملايين شخص داخل الحكومة وجهاز الحزب الشيوعي الصيني، ووجدت أن 3.7 مليون منهم مذنبون.
وجاء التحقيق العام وملاحقة الفساد على هذا النطاق على خلفية اتساع التفاوت داخل الصين. ولم يكن هذا الارتباط مجرد ارتباط عرضي. تفاقم التفاوت في الصين، لا سيما داخل المدن، بعد إصلاحات الثمانينيات ثم تفاقم أكثر بعد خصخصة عدد من الشركات المملوكة للدولة وإعادة هيكلتها في أوائل التسعينيات. وأدت زيادة الإنتاجية والأجور في قطاعات التكنولوجيا الفائقة وحصة الدخل المتزايدة من رأس المال إلى تغذية فجوة التفاوت الحضري عند قمة الهرم، وفي أسفل سلم الدخل الحضري، أدى تدفق العاملين من الريف إلى تغذية التفاوت عند أسفل الهرم.
ومع تزايد الثروة في الاقتصاد الصيني، تزايد الفساد في العقود الأخيرة. لكن حتى الآن، لم يدرس أحد تجريبياً خصائص الأشخاص الذين دانتهم اللجنة المركزية لفحص الانضباط بتهمة الفساد أو لم يحاول أن يثبت تجريبياً مدى إسهام الفساد في التفاوت. ومثلما يتضح، يكشف تحليل تفصيلي لبيانات اللجنة عن وجود نمط: لم يكن الفساد في صفوف الأشخاص الذين يحتلون قمة التسلسل الهرمي البيروقراطي والتكنوقراطي للحزب الشيوعي مرتفعاً جداً (لجهة متوسط مبالغ الأموال المختلسة) وحسب، لقد أسهم أيضاً في صورة كبير في التفاوت، إذ رسخ من هم أثرياء بالفعل في طبقة عليا أكثر منعة.
النمر الأكبر
بفضل الطبيعة المركزية لحملة مكافحة الفساد ونشر الحكومة الصينية البيانات ذات الصلة وتنظيمها، يمكن للباحثين الآن تقييم الديناميكيات. وباستخدام البيانات التي جُمعت من قضايا الإدانة الفردية، أنشأنا قاعدة بيانات لكبار المسؤولين الصينيين الذين دينوا بالفساد بين عامي 2012 و2021. تتضمن مجموعة البيانات معلومات تفصيلية عن 828 قضية جنائية تتعلق بالفساد و686 شخصاً مداناً (اتهم بعض الأفراد ودينوا بأكثر من جريمة واحدة). هم جميعاً أعضاء في الحزب الشيوعي الصيني، في أعلى رتب الحكومة أو التسلسل الهرمي للحزب أو مديرون في شركات مملوكة للدولة؛ بلغة حملة مكافحة الفساد، هم “نمور” مذنبون في جرائم أكثر أهمية، على عكس “الذباب” الكثير (المسؤولون ذوو الرتب المنخفضة) الذين تناولتهم التحقيقات أيضاً. وحتى بدء حملة شي، كانت شخصيات كثيرة مثل هذه تُعتبر محصنة.
هذا وصنفت اللجنة المدانين بحسب الأهمية من كوادر على مستوى المقاطعات وصولاً إلى كوادر على المستوى المركزي. وتشمل الكوادر المدارة من المركز أكبر المسؤولين، مثل وزراء المقاطعات. وتعينهم أو تعزلهم اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني. وتتولى الفروع الإقليمية للحزب الشيوعي الصيني إدارة الكوادر المدارة على مستوى المقاطعات، تضم صفوفها رؤساء البلديات وأمناء المدن. وتضم المجموعة الثالثة مسؤولين أقل أهمية إلى حد ما، مثل مديري الشركات المملوكة للدولة. ولغرض التبسيط، سنشير إلى هؤلاء المسؤولين على التوالي باعتبارهم مسؤولين على مستوى البلاد ومسؤولين على مستوى المقاطعات ومسؤولين على المستوى المحلي.
يكشف تحليل لمجموعة بيانات اللجنة المركزية لفحص الانضباط عن حجم الفساد بحسب رتبة المسؤول. وعند وضعها إلى جانب الاستطلاعات التي تناولت الأسر الحضرية الصينية (تميل النمور إلى العيش في المناطق الحضرية)، سمحت لنا مجموعة البيانات بتقدير الدخل القانوني لأولئك المدانين بالفساد وموقعهم في توزيع الدخل في المناطق الحضرية، وكشف مدى أهميتهم في الحياة الاقتصادية والسياسية العادية وأين بالضبط وقع فسادهم. ومن خلال مقارنة الدخل القانوني المقدر للمتهمين بالمبالغ التي اتهموا باختلاسها، احتسبنا مقدار زيادة دخلهم بسبب الفساد، وكم مكنهم الفساد من تسلق سلالم توزيع الدخل الصيني، وكيف أثر هذا الفساد في مستويات التفاوت في المدن الصينية.
وفي تطور لا يثير الدهشة، أظهرت البيانات أن حجم أنشطة المسؤول المدان الفاسدة يزيد كلما علت رتبته. وقد دين مسؤولون على مستوى البلاد باختلاس أكثر من 4.5 ضعف المبلغ الذي اختلسه مسؤولون على مستوى المقاطعات في كل قضية، وأكثر من ثلاثة أضعاف المبلغ الذي اختلسه مسؤولون على المستوى المحلي. واتهم أبرز المسؤولين المدرجة أسماؤهم في مجموعة البيانات باختلاس 14.1 مليون دولار في المتوسط، والمسؤولون على مستوى المقاطعات باختلاس 2.8 مليون دولار، والمسؤولون على المستوى المحلي باختلاس 4.3 مليون دولار. (أرقام المسؤولين على المستوى المحلي أعلى من أرقام نظرائهم على مستوى المقاطعات لأنها تشمل عدداً من مديري الشركات المملوكة للدولة الذين يبدو لهم الفساد مربحاً في صورة خاصة). والمسؤولون على مستوى المقاطعات متهمون بمعظم قضايا الفساد (الثلثين)، لكن بما أن الاختلاس في كل قضية من قضايا المسؤولين على مستوى البلاد أكبر من ذلك بكثير، يرتبط بهم ثلثا مجموع المال موضوع الفساد.
وينحدر المسؤولون المدانون بالكامل تقريباً من الأجزاء العليا من توزيع الدخل الحضري الصيني. ويندرج أكثر من نصفهم في أعلى خمسة في المئة من توزيع الدخل في المناطق الحضرية باحتساب مداخيلهم القانونية فقط؛ ويندرج حوالى ستة في المئة في أعلى واحد في المئة من التوزيع، بمداخيل سنوية أكبر من حوالى 30 ألف دولار للشخص الواحد (أو 120 ألف دولار لكل أسرة إذا كانت الأسرة تتكون من أربعة أفراد).
ومع ذلك، من خلال الفساد، حقق كل مدعى عليه في المتوسط ما بين أربعة وستة أضعاف إيراداته القانونية. وهكذا صعد المتهمون إلى قمة توزيع الدخل الحضري في الصين. وباحتساب دخلهم غير القانوني، حل 82 في المئة من المدانين بالفساد من ضمن أعلى واحد في المئة من سكان المدن، وحلوا جميعهم تقريباً في أعلى خمسة في المئة.
وتركز الفساد نفسه في صورة كبيرة في المستويات العليا، إذ تبين أن الـ10 في المئة الأولى من القضايا تتحمل مسؤولية 58 في المئة من إجمال المبلغ المختلس. وعلى النقيض من ذلك، يحصل الـ10 في المئة الأعلى دخلاً في المناطق الحضرية في الصين على 33 في المئة من إجمال الدخل. وهكذا تظهر الطبيعة المركزة للفساد – وكونه أفاد الأشخاص الذين كانوا بالفعل من بين أغنى أغنياء الصين – أن الفساد، في الجزء المكشوف منه، مسهم مهم في عدم المساواة الحضرية الصينية.
السعي العام إلى تحقيق مكاسب خاصة
تظهر هذه النتائج الحجم الهائل للفساد في أعلى توزيع الدخل الحضري في الصين. حتى الأشخاص أصحاب المداخيل القانونية المرتفعة يمكنهم مضاعفة مداخيلهم، في المتوسط، بواقع أربعة إلى ستة أضعاف – ومن الواضح أن بعضهم يضاعفه بأكثر من ذلك. وتشير النتائج إلى أن التفاوت الحقيقي في الدخل في البلاد أكبر بكثير من المستويات المسجلة لعدم المساواة. ففي نهاية المطاف، لا تُبلغ السلطات الضريبية عن المداخيل الفاسدة، ومن غير المرجح الإبلاغ عنه في الاستطلاعات التي تتناول الأسر. ومع ذلك، يجعل الاستهلاك الواضح لدى أعضاء النخبة وأسلوب حياتهم الفساد واضحاً للمراقبين. ومن المرجح أن تحد حملة شي، أياً كان دافعها السياسي، من التفاوت في الدخل، وأن تكبح الدخل المرتفع في صورة مفرطة والتباهي المرافق له بهذه الثروة، وهذا ربما هدف أهم من وجهة نظر السلطات.
وقد تفسر هذه النتيجة شعبية الحملة. قد تكون حملات مكافحة الفساد، لا سيما إذا لم تتردد في ملاحقة الأغنياء للغاية والأقوياء للغاية، مفيدة للأنظمة الاستبدادية لتعزيز سماتها الشعبوية. كانت حملة التطهير الأخيرة التي شنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد الجنرالات الفاسدين في خضم الحرب أمراً غير عادي، ولكنها تأتي بعد عمليات مكافحة فساد غير علنية بدأت في وقت واحد مع غزو أوكرانيا. كذلك أثبتت قضية الحكومة الأنغولية ضد سيدة الأعمال وسليلة الأسرة السياسية السابقة إيزابيل دوس سانتوس أنها حظيت بشعبية كبيرة. وأدخلت فيتنام أخيراً في حملة “تطهير” مماثلة استهدفت رأس الهرم في حزبها الشيوعي.
اعتبر مراقبون حملة شي لمكافحة الفساد قاسية وكثيراً ما كانت انتقامية في استهدافها منافسين محتملين. لكن التفاوت العام في الصين، مقاساً بمؤشر “جيني” [مقياس إحصائي يُستخدم لقياس عدم المساواة في الدخل أو الثروة أو الاستهلاك بين مجموعة من السكان] – الذي يمتد من الصفر، وهنا حالة افتراضية للمساواة الكاملة التي يحصل فيها كل شخص على المبلغ نفسه، إلى 100، وهنا حالة افتراضية أخرى يحقق فيها فرد واحد الدخل كله – انخفض في العقد الماضي من ذروة بلغت 43.7 عام 2010 إلى 37.1 عام 2020، وفق بيانات البنك الدولي. وأياً كانت الهفوات، تسعى حملة مكافحة الفساد إلى ضرب التفاوت المتفشي في البلاد في صورة رمزية وحقيقية.
برانكو ميلانوفيتش باحث بارز في مركز ستون للتفاوت الاجتماعي والاقتصادي التابع لمركز الدراسات العليا في جامعة مدينة نيويورك ومؤلف كتاب “رؤى التفاوت: من الثورة الفرنسية إلى نهاية الحرب الباردة”.
لي يانغ باحث في مركز لايبنتز للبحوث الاقتصادية الأوروبية.
مترجم عن “فورين أفيرز”، 11 سبتمبر 2024