في شرقنا الأوسط، يثير إمعان إسرائيل بحكومتها المتطرفة في تدمير غزة وإلحاق حجم مروّع من الأذى بحياة الفلسطينيين فيها، الكثيرَ الكثير من القلق، ليس فقط بسبب نتائجه المباشرة، بل أيضاً لنتائجه الأبعد، من حيث تكريس آليات لسلوك الحكومات لا تأبه على الإطلاق بالإنسان وحقوقه وحرياته الأساسية. كذلك يراقب أهل المنطقة بحذر وحيرة، حجم التطرف في سلوك الحكومات عندما تواجه احتمال مواجهة السقوط في أية انتخابات عادية أو استثنائية مقبلة.
في حالة نتنياهو، نرى حالة رعب تتملّكه من الحديث عن وقف إطلاق النار، تدفع به إلى التوتّر والعصبية وتوليد المواقف آنياً وخارج المنطق. يساعده بالطبع على ذلك دخول الولايات المتحدة من جهتها في انتخابات يحتمل أن تكون عتبة تحوّل مهمة. هذا يجعل انتخابات العام الجاري، التي شملت وتشمل أكثر من نصف سكان العالم، وربما نصف دوله أيضاً، موضوعاً مثيراً للنقاش:
ليس من أهمية تُذكر لمعظم الانتخابات الرسمية في العالم «غير- الحر» بسبب بعدها المتفاوت عن الديمقراطية. لكنّ انتخابات كتلك التي مرّت في الهند وبريطانيا وفرنسا، لها دور في حساباتنا، كذلك تلك الانتخابات في ولايات ألمانية ثلاث مؤخّراً، وسوف تكون الانتخابات الأمريكية في الأسبوع الأول من نوفمبر المقبل على الأبواب، ذات أهمية خاصة وربّما تقلب الموازين. وفي مجمل تلك المناسبات التي انقضت، أو هي مقبلة، وسيكون لمسألتي المهاجرين- اللاجئين دور أكبر من أية انتخابات سابقة.
رغم تراجع قضايا التغيير والإصلاح في منطقتنا، أو وضعها بعيداً عن الطاولة، يرجع الاهتمام بها وربّما يكون هذا فألَ خير مقبل، أو شؤمَ حرب كامنة وشاملة، لا تبقي شيئاً على حاله
في الهند» أكبر ديمقراطية في العالم»، التي كان يسيطر فيها حزب بهاراتيا جاناتا- حزب رئيس الوزراء مودي – الذي مال كثيراً باتّجاه التطرّف والشعبوية في الأعوام الأخيرة، لم تصدق التوقّعات، وتدهورت شعبية الحزب الحاكم – نسبياً- وعجز عن تحقيق الأغلبية بنقصان نوابه من 303 إلى 240، بإجمال 293 نائباً له مع حلفائه. حاز التحالف المعارض بقيادة حزب المؤتمر- نفسه- على 234 نائباً في البرلمان. وفي فرنسا، جيّشت القوى السياسية شجاعة الرئيس ماكرون – أو مقامرته – بالدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكّرة بعد نتائج الانتخابات المحلية التي أنذرت بتقدّم اليمين واليسار المتطرّفين. وقد أثمرت تلك الخطوة، من خلال استنفارها للفرنسيين، ولم يحقق اليمين المتطرف الأغلبية التي كان يتوقّعها، وحل ثالثاِ بعد اليسار ثم تحالف الرئيس. لكنّ ذلك لم ينهِ المخاوف من استمرار تقدّم التطرّف لاحقاً، وتقدّم الشعبوية أيضاً بوجهيها اليميني واليساري. وفي بريطانيا جاءت نتائج الانتخابات أكثر تعبيراً عن التغيير مما كان متوقّعاً، ونجح حزب العمال، وهُزم المحافظون بشكل ساحق أكثر من أية انتخابات سابقة. وكانت هنالك دلائل على حدوث تقدّم في شعبية اليمين المتطرّف، يبقى صغيراً جداً في إطار الصورة العامة.
في ألمانيا التي تحمل على كاهلها إرثاً قاسياً وقلقاً نوعيّاً من أي إنذار باستيقاظ التطرّف، الذي أشعل حرباً عالمية ودمّر البلاد سابقاً، كانت نتائج الولايات الثلاث: تورينغن وساكسونيا وبراندنبورغ – والأخيرة منذ يومين- مخيّبة للآمال وحملت ملامح قاسية. فقد نجح اليمين المتطرّف بالحصول على حوالي ثلث الأصوات (المُعطِّل) في الولايتين الأوليين ( 34% في الأولى، و31% في الثانية مطلع سبتمبر الحالي، وحوالي 29% في براندنبورغ – التي تطوّق برلين الولاية/العاصمة – منذ يومين. رغم ذلك أيضاً، تلعب الحساسية التاريخية دوراً أكبر في عزل اليمين المتطرّف و»تحريم» أيّ تحالف معه، بما يحصّن البلاد أيضاً من إمكانية تصدّره للحكم في الأفق المنظور، ما لم تتغيّر المعادلات بتسارع أكبر.
لعلّنا إذن ومع بعض التردّد، قد نصدّق فوكوياما هذه المرة حين قال في مقالة له في الرابع من هذا الشهر، إن عام الانتخابات هذا كان جيداً للديمقراطية، واستدرك فقال: إن الاختبار الأكبر للحكم في هذا الأمر سوف يكون في الولايات المتحدة. وبشأن هذا الأمر، كان قد قال في مقابلة مع ياشا مونك – جماعة الإقناع- في يوليو الماضي: «إذا فاز دونالد ترامب والجمهوريون بأغلبية كبيرة في نوفمبر، أعتقد أن هذا سيؤثر على السياسة في كل مكان. إن كل شعبوي في أي مكان في العالم سوف يطمئن، وسوف يحصل على دعم ترامب وحلفائه هنا في الولايات المتحدة. وإذا نجح الروس في تحقيق نتائج أفضل في معركتهم ضد أوكرانيا، فإن هذا سوف يؤثر على الأمور أيضا لأن الأمر سوف يبدو وكأن الاستبداد القوي في طريقه إلى التحرك، وسوف يعطي هذا راحة ويُحوّل – كما أعتقد – الكثير من الشعبويين إلى اليمين». وفي مقابلة له ضمن برنامج أمانبور في «سي إن إن»، قال فوكوياما منذ بضعة أيام شيئاً عن معالم ومؤشّرات الصراع بين التسلّط والديمقراطية، أيضاً على خلفية الاستقطاب المتزايد حول انتخابات الرئاسة في أمريكا.
في موسم انتخابات هذا العام، تراجع دور موضوع الإرهاب إلى الوراء قليلآً، وتقدّمت مسألة الهجرة. تضغط هذه في ألمانيا – ومعها أوروبا عموماً- والولايات المتحدة أكثر من غيرهما. وقد أجبرت الضغوط مجمل القوى السياسية الألمانية على التراجع – غير المنتظم أحياناً- ليتقدّم الاتّحاد الديمقراطي المسيحي، حزب ميركل أم اللاجئين، بمبادرات تهدف إلى تقليص شهية المهاجرين إلى سلوك الطريق نحو ألمانيا- حسب تعبير المستشار شولتس – وإبعاد أصحاب الوضع غير القانوني، أو الذين قاموا بجرائم أو انتهكوا القانون، أو جاؤوا عن طريق دولة ثالثة تقضي اتفاقية دبلن بإعادتهم إلى البلد الذي وصلوا إليها أولاً.
تضغط بدورها حملة ترامب بشراسة من خلال بوابة المهاجرين، وتتجاوز كلّ الأصول المعروفة، بحيث يصرّ ترامب مثلاً على أن القادمين من تاهيتي يأكلون حيوانات السكان المدللة. وقد اضطرّت تلك الحملة الديمقراطيين إلى المناورة أيضاً- بتراجع أقلّ دلالة من ذلك الذي حصل في ألمانيا- مع تقديم أكثر اتّساعاً لمسائل الإجهاض والعنصرية.
وهناك مفارقة تاريخية ملحوظة، في انتخابات هذا العام في أوروبا والولايات المتحدة، في الموقف من الحرب والسلام. فالقوى الشعبوية واليمينية تهاجم ما تقدمه دولهم من دعم لأوكرانيا في الحرب التي شنّتها عليها روسيا بوتين، وتدعو إلى «الجنوح إلى السلم»، كغطاء مباشر لتأييد روسيا ورفع الغطاء عن أوكرانيا، باستغلال واضح لظهور بدايات الشكوى من أعباء تلك الحرب على غرب أوروبا والولايات المتحدة أيضاً، أو بتأجيج لها. وفي ذلك كلّه، تبرز حرب غزّة بآثار مباشرة وغير مباشرة. فهي في ألمانيا، تأتي على شكل كتلة تصويتية صغيرة من العرب والمسلمين لا يُحسب حسابها كثيراً، في حين يُحسب حساب ما أثارته الحرب وحركة الاحتجاجات المرتبطة بها من توتّر ينعكس تمييزاً يستخدمه اليمين المتطرّف، في حين تلجم الذاكرة المعطوبة، أو المصدومة أيّ استخدام مفيد من قبل أحزاب الوسط بتنويعاتها. بينما في الولايات المتّحدة يضع الحزبان المتصارعان تلك الكتلة الإسلامية والعربية في حسبانهم، خصوصاً في الجهة الديمقراطية، التي تعمل على تخفيف أثر قضية دعم إسرائيل، وتأكيد طروحات التسوية السياسية على أساس حلّ الدولتين. والملاحظة اللافتة هي مؤشّرات دعم أكثرية اليهود الأمريكيين لكامالا هاريس، على عكس المتطرّفين الحاكمين في إسرائيل. هنالك علامات أيضاً على بعض التحوّل في طرف أصدقاء ترامب العرب، تحتاج إلى وقت حتى تتّضح، وربّما كان الزخم الذي جاءت به هاريس وتزايد احتمال فوزها حتى الآن وراء الأكمة.
وعلى الرغم من تراجع قضايا التغيير والإصلاح في منطقتنا، أو وضعها بعيداً عن الطاولة، يرجع الاهتمام من جديد إلى الشرق الأوسط وشرق المتوسّط، وربّما يكون هذا فألَ خير مقبل، أو شؤمَ حرب كامنة وشاملة، لا تبقي شيئاً على حاله.
كاتب سوري