من الصعب جداً الكتابة عن اغتيال أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله. من الصعب أكثر استشراف مرحلة ما بعد العملية بانعكاساتها ومتغيراتها وتداعياتها. من الصعب أيضاً القدرة على توفير إحاطة كاملة بما جرى وكيفية تنفيذ العملية وكيف حصلت. كما يصعب التفريق بين القراءة السياسية، الرأي الشخصي، المعلومات، في كل ما يمكن كتابته. الأكيد أنها عملية من شأنها أن تحدث تحولاً كبيراً في لبنان وعلى مستوى المنطقة، وذلك يقوله بنيامين نتنياهو ولا يخفيه. والأكيد أيضاً أن الحرب في بدايتها وستتحول إلى حرب برّية. أما عمليات الاغتيال الإسرائيلية المتواصلة، فتظهر وكأن الإسرائيليين يريدون اجتثاث الحزب، طالما أنهم يعتبرونه أصبح مكشوفاً، وأن من “وصل” إلى نصرالله بإمكانه أن يصل إلى الكثيرين غيره. كل ذلك على وقع اتصالات ترد إلى المسؤولين اللبنانيين بالتحضر للأسوأ.
عملية الاغتيال
كل المعلومات ستبقى شحيحة وإلى فترة طويلة. التحقيقات والمعطيات لن تكون متوفرة، ولكن ما يبرز منها حتى الآن، هو الشكوك في تلقي الإسرائيليين لمعلومة حول استعداد نصرالله لعقد اجتماع مع قيادات أساسية للحزب. شكوك كثيرة في حصول الإسرائيليين على المعلومة من مصدر بشري وعلى مستوى عال ورفيع. بعدها بدأت عملية الرصد والملاحقة والتتبع. فكان رصد اتجاه عدد من القيادات إلى المقرّ المستهدف. تأكد الإسرائيليون من وجود نصرالله وانتظروا الأوامر للتنفيذ. على الرغم من القرار المتخذ مسبقاً ومن التحضيرات، إلا أن العملية نفذت بشكل سريع، لتقليل احتمالات الخطأ. فنصرالله كان يفترض أن يمرّ سريعاً على قاعة الاجتماع المحصّنة، للمصادقة على قرارات تتصل بإعادة هيكلة الجسم العسكري في الحزب.
المقر المحصّن
بني هذا المقرّ المركزي بعد حرب تموز، وهو محصّن بشكل جيد. طريقة الوصول إليه تحتاج إلى العبور بكاراجات متعددة مشابهة للأنفاق، ومتصلة ببعضها البعض. كان الاجتماع مع قائد الحرس الثوري في لبنان عباس نيلفوروشان، والمسؤول العسكري علي كركي، وبعض المسؤولين الأمنيين. وحسب المعلومات المتوفرة حتى الآن، فقد حضر الاجتماع 22 شخصاً، توزعوا على غرفتين. الأولى، تواجد فيها نصرالله ونيلفوروشان وكركي و5 أشخاص آخرين مقربين من نصرالله، أحدهم مدير مكتبه وأمين سرّه، وبعضهم الآخر من المسؤولين الأمنيين الكبار في الحزب. أما الغرفة الثانية فكان فيها 14 شخصاً، من المرافقة وجهاز الأمن والحماية. بعيد انعقاد الاجتماع نفّذت العملية سريعاً.
تم انتشال جثة نصرالله، وبدت سليمة ولم تتعرض لإصابات مباشرة، فليس فيها تهشيم أو تشوه. الوفاة جاءت بنتيجة قوة عصف الانفجار.
التداعيات
نجاح العملية سدد ضربة قاصمة للحزب، وأظهرت حالة انكشاف كبير، فاتسعت التحقيقات لتحديد الخروقات. كما شرع الحزب في لملمة الوضع الداخلي، تحضيراً للتشييع ولتوفير مراسم الخلافة. ولا يمكن إغفال وجود تجاذبات كثيرة بين مراكز قوى عديدة في الحزب، كان نصرالله وحده القادرة على ضبطها ومساواتها والحفاظ على توازناتها. وذلك ما فتح أبواب التنسيق بين الضاحية وإيران، لإعادة معالجة الوضع وتشكيل الجسم العسكري والسياسي للحزب سريعاً، والبحث في آفاق وآليات الردّ على الاغتيال. لكن الأكيد هنا أن خسارة نصرالله لا يمكن أن تعوض. إنها ضربات إسرائيلية يُراد لها أن تكون قاضية للحزب وقوته وقدراته، خصوصاً في مواصلة عمليات الاغتيال والاستهداف لمواقعه ومخازنه، إلى جانب الإصرار على الاجتياح البري لإنهاء قوة الحزب. ويستند الإسرائيليون على غطاء دولي في ذلك. في المقابل، حزب الله ليس في وارد الاستسلام. وهذا يعني أن الحرب ستكون طويلة.
شخصية الرجل
لا يمكن الكتابة عن نصرالله بتجرّد في حالة التأييد أو المعارضة. بدايات التعرف عليه عبر الشاشات في أوائل تكوين الوعي لجيل أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، تتصل بتقديم نجله شهيداً في سبيل القضية، وبإعلاناته عن الانتصارات المتكررة. في الحقبة الممتدة ما بين التسعينيات والتحرير في العام 2000، كان شمساً تضج بالسطوع، لبنان في غالبيته “مقاومة”. ومن قبل كان انتماؤنا لجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ولأحزابها، فتعايشنا مع صراع “الغيرة” من حزبه الذي انتزع التحرير وربح المعركة. تلك كانت غيرة طفولية، ولكن آخرين تملّكت منهم غيرة أكبر، مما يتمتع به الرجل من قدرة على التأثير، بمعزل عن الاتفاق معه أو الاختلاف.
من الصعب جداً الوصول إلى معطيات كثيرة حول شخصيته، طبائعه، يومياته، مآكله ومشاربه. ولكن في عيون بعض من عرفوه، هو شخص عاطفي إلى حدود بعيدة، لكنه يفكّر بعقله وليس بقلبه. غالباً من يتحدث مع مجالسيه عن القيم، يشير دائماً إلى ضرورة نصرة المظلوم. سريع البديهة. يتابع الملفات بدقة، يبني تحليله السياسي الشخصي بناء على قراءاته ومقاطعة المعطيات والمعلومات لديه مع أكثر من جهة وطرف، ولا يكتفي بما يرده من تقارير. كان شخصاً لا يهدأ، آخر الخطباء في لبنان. إذ امتلك سحراً على المنبر، في الدخول إلى عقول الناس وقلوبها، وهو أحد أبرز الأسلحة التي يمتلكها هو وحزبه والمحور ككل.
ديبلوماسي لدولة عريقة على خصومة مع الحزب، لكنه التقاه من قبل، يصفه بالحادّ الذكاء والذي يتمتع بنظرة سارحة، هادئة، ثاقبة لكنها آسرة. ويقول إنه متحدث من الطراز الأول، متحفظ مع ضيوفه ذات الصفة الرسمية، يعرف جيداً انتقاء كلماته، ويجدّ بكل ما يمتلك لإقناع خصومه بوجهة نظره، أما عندما لا يقتنع أو تكون وجهة نظر ضيفه متعارضة مع وجهة نظره، فيتمتع بقدرة واسعة على الامتصاص والاستيعاب.
أحد خصومه السياسيين التقاه في المرة الأولى عام 1992 يصفه بأنه كان خجولاً في حينها ولكنه صلب وحازم. عاد والتقاه في العام 2006 بعد حرب تموز وجده فرحاً، منتشياً معتداً بنفسه وبما لديه، يقول عنه إنه “ساحر الجماهير” مؤيدين وخصوماً، وهو يعرف ذلك ويعرف جيداً كيف يستثمر نقاط قوته، لكنه في مكان ما كان نزقاً.
تتأرجح شخصيته في وصف من عرفه، ما بين الساحر والأسطورة. فسحره تجلى في اقتحامه للعالم العربي من مشرقه لمغربه. إذ كانت له فرصة لم تكن لأحد من قبله حيث رفعت صوره في المنازل والشوارع. أما أسطرته فيكرسها خوضه لحروب كثيرة داخل لبنان وخارجه، وبقائه لإثنين وثلاثين عاماً على رأس حزب الله، فنجح في توسيع نفوذه على مساحات واسعة من الشرق الأوسط، وصولاً الى اعتماده مصطلح “القوة ذات التأثير الإقليمي”. وهذا ما دفع الكثيرين الى انتقاده أو الانفضاض من حوله، خصوصاً لدى دخوله إلى سوريا وسحق الثورة السورية، وكذلك لدى التمدد نحو اليمن. فحينها تنامت المعارضات وتغيّرت الصورة لدى دول وشعوب كثيرة، خصوصاً مع إرساء الانقسام الذي هشّم الأسطورة.
المستلب روحانياً
أحد الذين التقوه في قم، خلال آخر زيارة علنية أجراها إلى إيران. يتحدث بإسهاب عن لطافته، روحه المرحة، إلمامه بأدق التفاصيل. ظاهره هادئ ولكن فيه الكثير من صفات الحزم. هو رجل واقع وسياسة، لكن الجانب الروحاني لديه يفاجئ الكثيرين، إلى حدّ وصفه مستلباً روحانياً باتجاه العقيدة والإيمان بكل ما هو غيبي. فهو يعتمد على الكثير من مراجع الشيعة في قمّ، ويستشيرهم في الكثير من المحطات البارزة، وهم معروفون بميلهم إلى الإيمان بالغيبيات، أحد أبرز هؤلاء “الشيخ بهجت” والذي عند وفاته أبّنه نصرالله شخصياً.
كريم جداً، وزاهد جداً بالمعنى الشخصي، لم يكن لديه أي اعتبار لمسائله الشخصية. يتلقى رسائل من أشخاص أوضاعهم حرجة، أشخاص عاديون كانوا بحاجة، قصدوه فسارع إلى تلبيتهم، بلا أي حساب أو اعتبار. دمث ودود عطوف، لكن الجوانب القيادية في شخصيته، الكاريزما، لن يكون من السهل تعويضها وفق ما يقول عارفوه ومجالسوه. بحسبهم هي خسارة شيعية هائلة، من شبه المستحيل تعويضها أو تكرارها. هم ينظرون إلى اغتياله في موازاة الحرب الهجمية التي فتحتها إسرائيل، تهديداً أساسياً للطائفة الشيعية، في لبنان وخارجه. إنها ضربة في لبنان، لكنها تصيب إيران إلى حدّ بعيد، فخسارتها كبيرة أيضاً. وإن كان الرجال أدوار، ولكل دولة زمن ورجال، فإن اغتيال نصرالله يُراد منه اغتيال الدور وتغييره، وذلك لا يحصل إلا على المديين المتوسط والبعيد.