من نصائح الجنرال الصيني صن تزو للطرف المتفوق في المعركة أن يترك مَخرجاً للطرف المتراجع. والهدف هو كسب القتال بأقل كلفة ممكنة. فلو تُرك الطرف الضعيف محاصَراً لَقاتل بعنف أكبر، بما أنه يُخير عملياً بين الحياة والموت. هذا المخرج هو “الجسر الذهبي”.

في خضم الحرب بين إسرائيل و”حزب الله”، وبالتحديد قبل التصعيد الأعنف الذي بدأ في 17 أيلول (سبتمبر) مع تفجيرات أجهزة النداء، كان واضحاً أن التفوق الإسرائيلي بدا أكبر مما توقعه كثر، ربما بمن فيهم الإسرائيليون أنفسهم. مع ذلك، اختار “حزب الله” عدم التراجع، حتى بعد اقتراب “حماس” من خسارة الحرب، وبالتالي انتفاء الهدف الأساسي من “جبهة الإسناد”.

 

النقطة الحرجة

تقول الفرضية السائدة إن اغتيال إسرائيل للسيد حسن نصرالله هو نقطة انعطاف في الحرب. لا شك في أنها كذلك على المستوى السياسي بالدرجة الأولى. لكنها لم تكن اللحظة التي بلغت فيها الحرب مرحلة حرجة عسكرياً. يمكن الإشارة إلى أن تلك النقطة برزت جلياً حين اغتالت تل أبيب القائد العسكري الأول للحزب فؤاد شكر في 30 تموز (يوليو) 2024.

سيحتاج أي جيش كلاسيكي في العالم لمقدار كبير من الجهد والحظ كي يتخطى اغتيال رئيس أركانه، وهو المنصب المساوي نظرياً لمنصب شكر. لم تتمثل قوة الضربة في نوعية الرجل المستهدف وحسب بل أيضاً في الخرق الاستخباري السريع والكبير الذي مكّن من تنفيذ الاغتيال.

ولو كان ذاك التحول حدثاً منفرداً في مسار المعركة، لأمكن القول إن الحزب قادر على تخطيه. لكن سبقت اغتيال شكر غارات قتلت قادة في وحدات نخبوية مثل القائد في “قوة الرضوان” وسام حسن طويل (كانون الثاني/يناير) وقائد وحدة “النصر” طالب سامي عبدالله (حزيران/يونيو) وقائد وحدة “عزيز” محمد نعمة ناصر (تموز/يوليو). بالتالي، كانت هناك علامات على وجود انكشاف أمني واسع. لكن الحزب لم يتراجع… على عكس راعيته إيران.

 

حسابات إيران: العقل البارد

تكثر الإشارات إلى أن إيران اختارت عدم الرد على اغتيال إسرائيل رئيس المكتب السياسي السابق لحركة “حماس” إسماعيل هنية في العاصمة طهران. في الواقع، كان إحجام إيران عن الانتقام دليلاً على أنها تدرك مخاطر التصعيد، وبشكل أدق، أنها أدركت سلفاً مخاطره. كان اغتيال هنية إشارة إضافية غير ملتبسة إلى أن طهران أيضاً منكشفة إلى حد كبير.

كان هذا الاختراق واضحاً منذ فترة طويلة. لكن ضعف قدرة إيران العسكرية توضّح في نيسان (أبريل) الماضي. حين ردت على قصف قنصليتها في دمشق، تبين أن عدداً من صواريخ إيران مصاب بأعطال فنية. كذلك، حمل الرد الإسرائيلي على الرد الإيراني رموزاً سهُل تفكيكها. بصاروخ واحد، دمرت إسرائيل راداراً روسياً لمنظومة “أس-300” في قاعدة جوية قريبة من طهران. فهمت إيران الرسالة: توازن القوى ليس لمصلحتها.

من المرجح أن تكون تلك اللحظة قد أطلقت التفكير الإيراني الجدي بسلوك “الجسر الذهبي”. وربما بدأت سلوكه فعلاً بعد اغتيال هنية. من غير المستبعد أن تكون إيران نفسها قد نصحت “حزب الله” باعتماد خيارها. حديث المرشد الأعلى علي خامنئي عن إمكانية “التراجع التكتيكي” أمام العدو لم يكن موجهاً إلى الداخل الإيراني وحسب. لكن يبدو أن هذا الخيار لم يكن وارداً في حسابات الحزب. ربما لأنه كان ملزماً بالوفاء بخطاباته التعبوية أمام جمهوره. وكان هناك فرق آخر بين الطرفين، فبيئة الحزب لم تشهد اضطراباً اجتماعياً كذاك الذي شهدته إيران طوال أعوام. احتاجت الأخيرة إلى تهدئة الشارع الداخلي عبر جذب الأموال الأجنبية لتفادي انهيار مؤسساتي.

تقدير المحلل في “مشروع فيلوس” فرهاد رضائي هو أن إيران بحاجة إلى ما لا يقل عن 100 مليار دولار في الأعوام القليلة المقبلة لتفادي هكذا انهيار. بالمقابل، كانت خدمات الحزب الاقتصادية والاجتماعية أفضل من الخدمات التي تقدمها الدولة اللبنانية إلى سائر اللبنانيين منذ الأزمة المالية. وبما أن الحزب بالغ في الاعتماد على حجم ترسانته الصاروخية كرادع لتل أبيب، علماً أنها من الترسانة الإيرانية، واصل “جبهة الإسناد” بعد اغتيال شكر.

 

هل توفر حل آخر؟

صعب على الحزب التراجع عن دعم غزة بعدما بنى سرديته على اقتراب إسرائيل من الزوال. صحيح أنه خفض نسبياً نبرته بعد 7 أكتوبر، لكن وقف “إسناد غزة” من دون وقف الحرب عليها كان ليمثل ضربة قوية لصورة الحزب؛ هذه هي الترجيحات المعقولة لحساباته.

من جهة ثانية، لم يكن “الجسر الذهبي” الافتراضي الذي وفرته إسرائيل خلال الصيف واضح المعالم. بعد رد “حزب الله” الخجول على اغتيال شكر في 25 آب (أغسطس)، قال نصرالله إن بإمكان أهل الجنوب العودة إلى منازلهم. كان ذلك رسالة غير مباشرة إلى الإسرائيليين بأن الحزب راض بالعودة إلى وتيرة قتال ما قبل 30 تموز. لم يتراجع الإسرائيليون. بعد نحو ثلاثة أسابيع، قرروا نقل المعركة إلى الشمال.

يثير ذلك سؤالاً آخر. من أمكنه ضمان عدم تعرض الحزب لضغط عسكري إضافي لو قرر سلوك “الجسر” المفترض؟ في نهاية المطاف، كانت إسرائيل سترى في هذا التراجع ضعفاً من الحزب وخوفاً من مواجهتها. لكن ربما أمكنها أيضاً الاكتفاء بفصل جبهتي لبنان وغزة بصفته إنجازاً مقبولاً ووقف الحرب.

ليس واضحاً ما إذا كان القرار السياسي باستهداف نصرالله في 27 أيلول قد اتُخذ قبل خمسة أيام كما قالت تقارير، أو أنه اتُخذ في 17 أيلول، تاريخ بدء معركة “الشمال”. في كلتا الحالتين، بدا أن “الجسر الذهبي” أمام الحزب قد “قُصف” منذ أسابيع بالحد الأدنى.

بعكس الحزب الذي رعته، اعتادت إيران التراجع في معاركها عند شعورها بخسارة وشيكة. لم تجد ضيراً في تجاهل خطاباتها الرنانة فيما أجّلت القلق بشأن صورتها إلى مرحلة لاحقة. ثمة سبب وجيه لصمود نظامها 45 عاماً.