طه حسين وزوجته مع مسؤولي جامعة القرويين في فاس خلال زيارته للمغرب عام 1985.
في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 1889 ولد الدكتور طه حسين، وشاءت المناسبة والاحتفاء بعيد مولده الـ 134 أن أُعيد هنا جزءاً من سيرة الأديب الكبير وعلاقته بالمغرب.
كنتُ قد كتبتُ بعض الخواطر عن المشترك الجميل بين بلداننا العربية، وساعدني أنّه خلال ثلاثة عقود تنقّل بي الحال بين مدن شتى وأرصفة عدة، وبقي زاد الصبر عندي في دفء الشارع العربي الذي وَحّده الحلم والهمّ ذاته.
وانشغلت لفترة بشكل ما، على ما يجمعنا بين ضفتي هذه الأمّة، من مضيق جبل طارق إلى مضيق باب المندب.
وأخذت الأمور منحى نقاشات لم تنتهِ بعد، لكنها تعزز لديّ قناعات راسخة عن مشترك عميق أقوى من تشظٍ عابر، وعن سماء واحدة أكثر بهاءً من أرض ملغومة بحدود مصطنعة، وبقيت لسنوات وما زلت على يقين أنّ الأرصفة التى تتلقفك أكثر إدراكاً لنبض قلبك من أوراق الثبوتية التي تتغيّر مع كل منعطف سياسي!
ولكن أردتُ اليوم أن أقف عند محطة استوقفتني وأنا أقرأ عن هذا الاهتمام بالقاسم المشترك الجميل بين ضفتي الأمّة.
وهي عن زيارة الدكتور طه حسين للمغرب في حزيران (يونيو) 1958. بدأتُ الأمر مُعلّقاً على استغراب عميد الأدب العربي لكلمة لم يفهم معناها عند لقائه الملك محمد الخامس رحمه الله، وهي كلمة “ديالنا” باللهجة المغربية وتعني حقنا، و”ديالكم” أي حقكم، وتفسير الكلمة وطرافة الموقف أحكيه في موضع آخر، ولكن شدّني ما قرأت عن أثر الزيارة، ومواقف تلك المرحلة التي شهدت تطلّع الأمّة للانعتاق من الاستعمار نحو الاستقلال. دعوني أقول: “الاستقلال الأول لهذه الأمّة”.
شدّني ذاك الاحتفاء الواسع شعبياً ورسمياً بحضور طه حسين والاهتمام بالأدب وأهله، وكيف رتّب الرجل محاضراته المدهشة في المدن التي زارها من طنجة والرباط والدار البيضاء إلى فاس وتطوان، وكيف جعل الحديث عن الأدب العربي واللغة العربية، محور الاهتمام الذي يتجاوز مجرد شغف الشارع بالأدب واهتمام المثقفين بحركة الإبداع، إلى إعادة الاعتبار لروح الأمة في النهوض بين الأمم.
ويصف الدكتور المؤرخ عبد الهادي التازي رحلة طه حسين إلى المغرب بشكل أخّاذ وأسلوب أدبي جميل، شارحاً كيف كان العميد يدافع عن الأدب العربي وأهمية استعادة مجد الكلمة، وكيف حظيت الزيارة باستقبال رسمي وحضور شعبي مدهش، حتى أنّ الملك الحسن الثاني وكان ولي العهد آنذاك، حضر مع عامة الناس محاضرة طه حسين في جامعة الملك محمد الخامس بالرباط كلها، وحرص على التعليق على أهميتها والاحتفاء بالضيف بحضور واسع. وجاء التقدير المغربي لموقف طه حسين كتكريم، لمواقفه التي عُرفت بالقوة والمؤيّدة لكفاح المغرب والمطالبة بالاستقلال، وكتب عن ذلك بشجاعة.
ويذكر التازي كيف كان لموقف طه حسين أثره البالغ، حينما أقدم الاستعمار على نفي الملك محمد الخامس وولي عهده، يوم 20 آب (أغسطس) 1953 والذي كان يصادف عيد الأضحى عند المسلمين.
وهنا سمع الناس في المغرب أنّ الدكتور طه حسين أرجع الوسام الفرنسي “لا ليجيون دونور” من رتبة فارس كبير، احتجاجاً على ما أقدمت عليه فرنسا تجاه المغرب وملكها.
وبالتالي كرّم الملك محمد الخامس بعد سنوات الدكتور طه حسين بوسام خاص سُنّ للإبداع وتكريم العلم، وهو “وسام الكفاءة الفكرية”، وكان طه حسين أول من تقلّده.
ولمعرفة هذا الشغف بالتواصل مع الدول العربية الأخرى بعد الاستقلال، علينا أن نذكر بقسوة الاستعمار لدول المغرب العربي عامة، وحرص المستعمر على منع أي تواصل ممكن. ويذكر عبد الهادي التازي كيف عمدت سلطات الاستعمار إلى تجريم التواصل مع المشرق، فيقول بالنص: “لقد كان محظوراً علينا أن نتصل بالمشرق إلاّ عبر القنوات التي تسمح السلطات الاستعمارية بالمرور منها، وكذا فإنّ النشرات الواردة علينا من المشرق كانت تخضع بدورها لرقابةٍ محكمة، وحتى صُوَر قادة المشرق وزعمائه كانت تتعرّض للمصادرة بل وللعقاب الصارم على امتلاكها وترويجها! وقد وجدت نفسي ذات يوم بالسجن عام 1937 لأنّ الشرطة عثرت في بيتنا على رسوم لسعد زغلول ومحمد فريد، وقاسم أمين”.
لذا، كان موقف طه حسين مقدّراً، وكان للزيارة أثرها البالغ في تعزيز جسور التواصل.
وما همّني من الأمر أكثر هو ما وصفه التازي عن مضمون المحاضرات الإبداعية وكيف كانت القاعات تغص بالحاضرين. وكيف عانى سفير مصر والمستشار الثقافي المصري آنذاك من ضغط المثقفين وطلاب الجامعة المغاربة، الذين يريدون وقتاً للنقاش مع طه حسين وسماعه، وكيف كان الشارع يمتلئ بالناس، وكيف كان للكلمة أثرها في النفوس، وكيف كان لصاحب قلم وفكر من قدرة على مدّ جسور تلاحم جميل.
ربما نحن بحاجة لردّ الاعتبار للفكر والكلمة أولاً الآن وقبل كل شيء، ليكون أصحابه نجوماً مؤثرة في سير المجتمع، وللمضي بعد ذلك بردم فجوات تمزق لا معنى له، وجعل هذه الأرصفة الممتدة آمنة تعيد بعض ألق المشترك الجميل بين ضفتي الأمة.
نحتاج لسفراء الكلمة والإبداع، أن يردموا فجوات التمزّق بين هذه الأمة. والأهم نحتاج عقولاً عربية تغادر دوائر الرعب والتخلّف نحو فتح آفاق العقل، نريد طه حسين آخر يكون “ديالنا” أي بلهجة أهل المغرب حقّنا، و”ديال” هذا العصر أي ابن هذه المرحلة.