طالما لعبت إيران على حافة الحرب في الإقليم.
وبعدما راهنت على غرب واهن، وتوهمت ضعف محيطها العربي، وتباهت بشركائها “الإمبرياليين الجدد” في موسكو، كان يمكن اختصار سياسة إيران في أن تقترب من روسيا والصين، بحيث لا تقع في حضنهما، وتبتعد من أميركا من دون أن تقطع شعرة معاوية معها، لكي يختصر “تحرير فلسطين” إلى مجرد “تحرير المراقد”!
ثمة مقولة تؤسس الدبلوماسية الإيرانية رؤيتها لنيل تفويض دولي بإدارة الإقليم. إنها، مثل إسرائيل، تعتبر العرب غير جديرين بتأسيس الدول وأنهم لن ينضبطوا ما لم يُخضعوا لقوة إقليمية ما.
بل سعت إيران إلى الاستفراد الإستراتيجي بالإقليم لعقود. وبعدما عملت كل ما هو ممكن من أجل إفهام الغرب والأميركيين أن لا ضرورة لأساطيلهم، ما دام يمكن إدارة الإقليم عبر جملة الصفقات معها. ونشأ وهم ساذج في عواصم الغرب أن جل ما تريده إيران أن تكون العمود الاستراتيجي المفوض لإدارة الإقليم. بذلك سارت إيران بعيداً في صفقاتها “التكتيكية” في العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن. وبحسب شعرة معاوية، مضت بعيداً في محادثات وزير الخارجية السابق عباس عراقجي مع المسؤولين الغربيين، لاستعادة الاتفاق النووي وإطلاق سراح السجناء الأميركيين وتحرير بعض المليارات من الدولارات من العقوبات.
لكن، مع تفاقم الأزمة الداخلية وتضافر عناصرها الإثنية والجنسانية في المجتمع الإيراني لتشمل شباب المدن والبلدات، تتشقق القشرة الصماء لمراكز القرار الإيراني. ذلك أن الغول العقائدي الذي ربته السلطة الإيرانية في رحمها، لا يقبل أن تنكشف خصلة مهسا أميني، ويطيش حجره من تهاون أولئك الدبلوماسيين الإيرانيين “المهادنين”. وككل “الثوريين”، اختنق بشعرة معاوية فقرر قطعها؛ لتظهر تشققات مركز القرار في طهران الذي يعمل كمحصلة لتوازن جزر سلطوية منعزلة، لها أجندات قد تكون مترابطة، ولكنها مستقلة، ولها مصالحها الخاصة.
في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، قطعت إيران شعرة معاوية مع الغرب، وبخاصة مع الولايات المتحدة. وبالطبع قطعتها مع إسرائيل. فلا تفويضَ إقليمياً، ولا اتفاق نووياً، ولا ما يحزنون. ودفع العقائديون إيران نهائياً في خاصرة روسيا، وإلى كسر كل ما بني من ثقة “تكتيكية”، رعتها روسيا، بين إسرائيل وإيران. لتدور الدوائر على الأمن القومي الإيراني ذاته.
بعدما مضت أميركا بعيداً في انفكاكها عن الإقليم، وسحبت حاملات الطائرات، وبدأت تفكيك قيادتها المركزية في الخليج، صار الحرس الثوري يتفرج بالعين المجردة على مناظر حشود الأساطيل الغربية والأميركية والإسرائيلية في بحر العرب والخليج، بل لقد غطت المسيرات في الجو والبحر شاشات راداراته.
بدوره، كان “حزب الله” وكل أذرع إيران الأخرى يختنقون أمام انسداد الأفق وانهيار الدول التي يعششون فيها، من لبنان إلى “اليمن السعيد”. لكن، في نهاية الأمر، تنظر إيران إلى مصلحتها القومية أولاً وأخيراً. وتكمن معضلة لبنان هنا بالضبط. فبغض النظر عن حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل في غزة، أدت الحرب في غزة إلى تدهور جوهري في الوضع الإستراتيجي الإيراني.
وفي المقابل، مثل زملائه العقائديين، يصطدم نتنياهو بجدار هائل من الفشل في غزة. إنه يرضخ عنوة لإجهاض مشروع التهجير القسري، ولتبادل الرهائن، ولفشله في حل عقدة غزة. الأهم أنه بعدما افترض أن العرب قد تخلوا عن الفلسطينيين، يأتي مؤتمر الرياض ليثبت العكس. وهو يعلم، كما يعلم بايدن، أن العرب، وبخاصة السعودية ومصر والأردن، هم ممر إجباري لأي مخرج لهما من ورطتهما الراهنة.
أما في الشمال، فتكتشف إسرائيل ثقوب أمنها القومي بعدما تمزقت كل الاتفاقات التي رتبتها روسيا مع إيران، لتصبح رهينة استراتيجية لخصم لم يعد في إمكانها تطويعه. وأمام جدار الفشل قد يقفز نتنياهو للأمام.
أمام هذه اللوحة أين يقف لبنان؟
بصفته مركز الأذرع الإيرانية، لا شك في أن لـ”حزب الله” حساباته الخاصة. ولكنه في نهاية الأمر، جزء لا يتجزأ من الرقصة الإيرانية الإقليمية يصعد معها ويهبط، حيث يشكل هو خط الدفاع الأول في حال تهديد إيران، وخط الدفاع الثاني في حال ضربها.
وبالتالي يلاحظ من يتابع كلمة إبراهيم رئيسي في قمة الرياض، درجة غضبه من فشله في جر الدول المشاركة إلى الاصطفاف أمامه ليقاتلوا في معركته حتى آخر عربي. كان خطابه التصعيدي معزولاً. لا لحل الدولتين، ولا للسلطة الفلسطينية، ولا سلام ولا ما يحزنون.
يعرف “حزب الله” أنه كسر مزراب العين دولياً وإقليمياً، وأن شعرة معاوية بين إيران والغرب قُطعت. لذلك فهو يعرف أن إسرائيل جادة في ما تقوله من أنها لن تقبل بعد الآن بالوضع السابق على حدودها الشمالية.
تصبح معضلة إيران الجديدة، كيف يمكنها أن تعيد فرض نفسها كقطب مفاوض رئيسي على تقاسم الإقليم؟ فما جرى في القمة لم يتح لإيران قطاف ثمن المذبحة الإسرائيلية.
لذلك، تبدو الاشتباكات جنوب لبنان أقرب إلى الاستطلاع الهجومي، منه لحفظ ماء الوجه أو لحرب الاستنزاف. “حزب الله” بعقله الاستباقي يراقب التحرك الإسرائيلي المنتظر، والذي يعتبره الجيش محتوماً “لتغيير الأوضاع في الشمال”.
على طرفي الخندق جنوب لبنان، تشعر قوى رئيسية في مراكز القرار في إيران وإسرائيل أنها تحتاج معركة جديدة لتحسين موقفها التفاوضي.
وإذ يتم الاتفاق على مدى الخمسة كيلومترات كهامش لتبادل النيران، يقرر المستوطنون في الحزام الشمالي الإسرائيلي، أنهم لن يعودوا إلى بيوتهم، ما لم يسحب “حزب الله” قوات النخبة إلى ما وراء الليطاني.
بذلك تصبح المهمة القريبة للجيش الإسرائيلي هي “إقناع حزب الله” بما لم يفعله بعد 2006، رغم القرار 1701. وإذ يعلن “حزب الله” أن عدد المصابين الإسرائيليين يصل إلى أكثر من ألف، يتضح أن ما يجري يتجاوز بكثير مجرد المناوشات.
أعلن الجيش الإسرائيلي خطة للهجوم وللدفاع شمال البلاد. وبحسب ما يفهم من الخطط، فإن الجيش الإسرائيلي لا يستبعد أن يقوم في المدى المنظور بعمليات قصف واسعة لجنوب الليطاني. وهذا بدوره سيدفع لبنان نحو الهاوية.
وإذ يعجز المجتمع الدولي حتى عن ضبط إيقاع الأحداث في غزة، يقف لبنان على مسافة شعرة من خطأ في التصويب، أو خطأ في الاجتهاد الميداني. ويظن “حزب الله” والإسرائيليون أنه يمكن احتواء اندلاع الإقليم. ولسوف نرى كيف تتصرف إيران حينما تشاهد انهيار الوضع في لبنان.
يعلمنا التاريخ، أنه قلّما يردع عدم اليقين قرار الحرب، بل في معظم الأحيان لا يردعه. أخشى أن القضية قضية وقت.