في كلّ يوم يمرّ تزداد عذابات غزّة وأهل غزّة نتيجة ما تمارسه إسرائيل من جنون ليس بعده جنون ومن إرهاب ليس بعده إرهاب. تعرّض قسم من أهل غزّة لعملية تهجير داخل القطاع نفسه. لا يشبه هذا التهجير الداخلي من منطقة معيّنة في غزّة إلى منطقة أخرى في داخل القطاع، غير ذلك التهجير الذي مارسه النظام السوري منذ العام 2011 في سياق حربه على شعبه.
توجد رغبة حقيقيّة لدى بنيامين نتنياهو في تفريغ غزّة من سكانها. هل ينجح في ذلك أم لا؟ من الواضح أنّ مصر تقف حاجزاً دون انتقال الغزاويين إلى سيناء، أي إلى أراضيها. يشكّل الموقف المصري عقبة أساسيّة في طريق ما يريده “بيبي” الذي وضع لنفسه هدفاً يتمثّل في القضاء على “حماس” التي كانت وراء الهجوم الذي نفّذه مقاتلوها في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي.
يدفع رئيس الوزراء الإسرائيلي ثمن رهانه على “حماس” بغية تكريس الانقسام الفلسطيني ومنع وجود سلطة فلسطينية تستطيع تنفيذ مشروع وطني يقوم على خيار الدولتين. هذا الخيار اعتمدته منظمة التحرير الفلسطينية منذ خريف العام 1988 تحت عنوان المشروع الوطني الفلسطيني.
مفيد أن توافق القمة العربيّة – الإسلاميّة التي انعقدت في الرياض على خيار الدولتين، مع التشديد في الوقت ذاته على أولوية وقف الحرب على غزّة. مثل هذا الموقف مفيد أيضاً، خصوصاً أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران وافقت عليه. الأكيد أنّ موافقتها ارتبطت بما ورد في البيان الختامي للقمّة، ككلّ، في ما يخصّ التطبيع مع إسرائيل. ترفض إيران مثل هذا التطبيع ما دام يتحقّق من دون طلب رضاها ومن خارج مشروعها التوسّعي في المنطقة.
بالنسبة إلى إيران، حقّقت حرب غزّة المطلوب تحقيقه في ما يتعلّق بوقف التطبيع، وإن موقتاً، وتعطيل للخط الذي كانت تسير فيه المملكة العربيّة السعودية. كان هذا الخط يعني، بين ما كان يعنيه، أنّ نوعاً من العلاقات سينشأ بين المملكة وبين إسرائيل في حال تلبية الدولة العبريّة لشروط معيّنة مرتبطة بالشعب الفلسطيني وحقوقه.
في كلّ الأحوال، لم يغب الدهاء الإيراني عن قمّة الرياض. ما لم تستطع “الجمهوريّة الإسلاميّة” تمريره في البيان الختامي، جرى تمريره عن طريق موقف جمهوريّة العراق. كان لافتاً “تحفّظ جمهورية العراق عن عبارة حلّ الدولتين أينما وجدت في القرار كونها تتعارض مع القانون العراقي”.
تحفّظت جمهورية العراق أيضاً عن “عبارة قتل المدنيين، كونها تساوي بين الشهيد الفلسطيني والمستوطن الإسرائيلي”، وعن عبارة “إقامة علاقات طبيعية معها”، أي مع إسرائيل. تبدو هذه التحفّظات العراقيّة أقرب إلى مكافأة في محلها تحصل عليها الولايات المتحدة التي اجتاحت العراق في 2003 وأوصلت الميليشيات المذهبيّة، الموالية لإيران، إلى بغداد على ظهر دبابة من دباباتها.
في كلّ الأحوال، بعثت قمة الرياض العربيّة – الإسلاميّة بالرسالة المطلوبة. هناك موقف عربي – إسلامي مشترك يدعو إلى وقف الحرب الإسرائيلية على غزّة من جهة، وفتح الباب لاحقاً أمام مشروع حل سياسي على الصعيد الإقليمي بما يتجاوز غزّة من جهة أخرى.
مع طرح مشروع للحلّ السياسي الشامل للقضية الفلسطينية، فإنّ الهمّ العربي الأول والأخير خلال القمّة تمثّل في الإصرار على إنهاء المجزرة عبر وقف إطلاق النار، الذي ترفضه إسرائيل كليّاً وتتناغم معها أميركا ومعظم دول الغرب. تريد أميركا وحلفاؤها الإفساح في المجال أمام مجلس الحرب برئاسة بنيامين نتنياهو كي يحقّق أقصى ما يستطيع للانتقام من “حماس” وفق تمنّيات قادة الدولة العبرية والغرب بإنهاء دورها.
بعثت قمّة الرياض برسالتها، لكنّ ذلك لا يلغي أمراً في غاية الأهمّية يتعلّق بمأساة غزّة التي في أساسها الخط السياسي الذي اتبعه رئيس الوزراء الإسرائيلي بكل ما يرمز إليه من عنصرية. في أساس هذا الخط السياسي تقديم الاستيطان في الضفّة الغربيّة على كل ما عداه… حتّى لو كان ذلك يعني التغاضي عن نشاطات “حماس” في غزّة وعلاقتها العضوية بإيران. قامت كلّ فكرة (الراحل) أرييل شارون لدى اتخاذ حكومته قراراً بالانسحاب الكامل من غزّة في آب (أغسطس) 2005، على توظيف الانسحاب في خدمة مشروع ضمّ جزء كبير من الضفّة الغربيّة المحتلة إلى إسرائيل. يكون ذلك عن طريق تشجيع الاستيطان فيها وتوسيعه.
ما سقط جراء حرب غزّة، التي بدأت في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، هو الفكر اليميني الإسرائيلي الذي استثمر في “حماس” من أجل تكريس الانقسام الفلسطيني، أي الفصل بين الضفّة وغزّة.
تبيّن بكل بساطة أنّ الشعب الفلسطيني واحد ولا يمكن تذويبه. انفجر لغم غزّة في وجه بنيامين نتنياهو. ما انفجر فعلاً هو رهان التطرّف الإسرائيلي على التطرّف الفلسطيني… بقي شيء من “حماس” أم لم يبق. ما بعد حرب غزّة لن يكون كما قبلها. سيرحل بنيامين نتنياهو وربّما يُحاكم. إلى ذلك، ستأخذ إسرائيل حجمها الحقيقي عاجلاً أم آجلاً، خصوصاً بعدما تبيّن أنّها مضطرة إلى الاعتماد أكثر فأكثر على الولايات المتحدة من أجل البقاء على قيد الحياة!