هذا الجيش الغازي لا يملك حساسية التمييز في الاستهداف بين مقاتلين وبين شريحة اجتماعية واسعة، وقد بدأ عملياته العسكرية بخطة حرب، هي في جوهرها امتداد لما أفصح عنه الناطقان باسمه خلال جولاتهما الميدانية، وتقضي الخطة باستهداف “الشيعة” في المناطق اللبنانية التي لجأوا إليها
إلى جانب ما تُشعرنا به الآلة الحربية الإسرائيلية من قلق، ومن احتمال أن نُستهدف وأن نكون خسائر جانبية، على نحو ما أصاب مئات اللبنانيين، وجدنا أنفسنا نحن الذين تفصلنا مسافة نقدية مزمنة عن سلاح “حزب الله”، في موقع أشد تعقيداً من الموقع الذي أقام صلحاً مع هذا السلاح، بعدما استحضر أصحابه أولوية “القضية المركزية” التي تتقدّم على كل الأولويات.
ليس مرد التعقيد إلى أننا في مقابل المسافة النقدية بيننا وبين هذا السلاح، وجدنا أنفسنا حيال احتمال احتلال، وحيال آلة قتل عمياء، وأمام قرار إبادي إسرائيلي، إنما الجديد الذي وجدنا أنفسنا حياله، هو مجاهرة إسرائيل عبر الناطقين باسم جيشها، بأن الحرب هي بينها وبين الشيعة، ولم تعد الإشارة إلى “حزب الله” ضرورية على ألسنة مفوهي الجيش من أمثال دانييل هاغاري وأفيخاي أدرعي. وهما ناطقان رسميان باسم الجيش، وما يقولانه يمثل عقيدته القتالية!
يُشير هاغاري بيده إلى قرية في جنوب لبنان دخلها الجيش الإسرائيلي، ويُسمّيها “قرية شيعية”، وكانت بحسبه تستعد لـ”الدخول إلى شمال إسرائيل”. إذاً، القرار بعدم التمييز بين “الشيعة” و”حزب الله” هو جزء من خطة الحرب. لا بل أكثر من ذلك، ففي فيديو آخر ظهر أفيخاي أدرعي يسأل مشاهديه: “إنهم الشيعة… ألم تقرأوا ما كتبه علماء المسلمين الذين حذروكم من خطر الشيعة الإيرانية عليكم وعلى شعوبكم؟”.
هذا الجيش الغازي الذي لا يملك حساسية التمييز في الاستهداف بين مقاتلين وبين شريحة اجتماعية واسعة، بدأ عملياته العسكرية بخطة حرب، هي في جوهرها امتداد لما أفصح عنه الناطقان باسمه خلال جولاتهما الميدانية، وتقضي الخطة باستهداف “الشيعة” في المناطق اللبنانية التي لجأوا إليها، مع ما يرافق ذلك من إشعارٍ للبيئات التي استقبلت لاجئين بالخطر الذي يمثله هؤلاء عليهم.
حصل ذلك في أكثر من مكان في لبنان. إذ استهدفت عشرات الغارات مبانيَ يُقيم فيها لاجئون، فقتلت عشرات العائلات بحجة وجود مطلوب في المباني التي لجأوا إليها.
يكفي عنصر في “حزب الله” لاتخاذ قرار بقتل العشرات معه على نحو ما حصل في قضاء زغرتا، وقبلها في بلدة برجا ومنطقة عين الدلب في شرق صيدا.
الرسائل الدموية التي حملتها هذه الغارات كثيرة، ولعل أقلها أهمية بالنسبة الى الجيش الإسرائيلي قتل عنصر من “حزب الله”، وأولها العقاب الجماعي للجماعة اللبنانية الشيعية، وثانيها خلق توترٍ بين السكان الذين استقبلوا النازحين وبين النازحين أنفسهم، وهو ما شهدناه في أعقاب أكثر من غارة.
الأرجح أن عناصر الحزب ومسؤوليه الذين أقاموا في المناطق غير الشيعية المستهدفة، وصلوا إليها من دون أن يحوّلوها إلى مراكز عسكرية، على نحو ما تروّج له آلة الحرب والإعلام الإسرائيلية. أخطاء “حزب الله” التكتيكية وغير التكتيكية في هذه الحرب لا تحصى، لكنها لا ترقى إلى حد نقل قواعد عسكرية إلى مناطق النزوح. ويمكن أن يسجّل على الحزب بأن حماية المدنيين ليست جزءاً من أولوياته أثناء تنقّل مسؤوليه، لكن ادّعاء إسرائيل بأن الحزب حوّل مناطق النزوح إلى مخازن لصواريخه ليس أكثر من نكتة سمجة.
من الواضح أن آلة الدعاية الإسرائيلية تملك من الابتذال ما يفوق بأشواط آلة خصومها. أفيخاي أدرعي شخصية لا تقيم وزناً لأي اعتبار أخلاقي أو سياسي. فهو يرسل إنذاراً للناس عبر “أكس” بوجوب إخلاء مناطقهم في الساعة الخامسة صباحاً، ويرفق رسالته بابتسامة الشامت من إيقاظه مدنيين وهرعهم فور استقبالهم تهديده.
هذا الرجل ليس مجرد مغرد، هو ناطق رسمي باسم جيش تصطف وراءه غالبية دول العالم، ومن خلفها قيم “حقوق الإنسان”. ولعل آخر ارتكاب سجلته آلة الدعاية هو المقابلة التي انتُزعت من أسير حرب، انتُهكت خلالها حقوق هذا الأسير بشكل وقح، وتم الدوس خلالها على شرعة حقوق الأسير كما أقرتها الأمم المتحدة.