إن نسيت فلا أنسى، في أمر مصافحة النّساء، استفسار الشّاعرة العِراقيَّة المعروفة لميعة عباس عمارة (تـ: 2021) مني، عندما قدّمَ لها المعمار محمَّد مكيَة (تـ: 2015) الدعوة إلى ندوة بعنوان “الصّابئة المندائيّ والإسلام” (كونها صابئيَّة مندائيَّة) في ديوانه “ديوان الكوفة بلندن” (1995). قالت: مَن يُصافح ومَن لا يُصافح عندكم؟ واخبرتها بُعداً للإحراج، هناك مَن لا يصافح، أمّا صاحب الدِّيوان، فيتجاوز المصافحة إلى التّقبيل، فالنّساء عنده، أخوات وبنات، وخصوصاً أنّه سمّى لميعة بعشتار العصر. فأول ما دخلت قالت: أنا لا أصافح الرّجال، فضحك مَن حضر، ثم أقبلت على محمّد مكيّة فاحتضنته وقبّلته.
شهدتُ العديد مِن مواقف الإحراج في المجالس التي تقتضي وجود الرّجال والنّساء، عندما يمدُّ الرّجل يده لمصافحة امرأة فيُفاجأ بضمّ يدها إلى صدرها، فيتغيّر وجهه مِن شدّة الحرج، والأكثر حرجاً عندما تمدّ المرأة يدها لمصافحة الرّجل؛ فيضمّ يده إلى صدره، أمام الصُّفوف مِن الرّجال والنّساء، وقد تعدّى الحال الحفاظ على الوضوء إلى التّفكير أنَّ المصافحة وسيلة لإثارة الشَّهوة، غير أنَّ الإسلاميين الحريصين، على هذا التّقليد، يتخذون منع المصافحة، كتقليد حزبيّ، وهذا أول ما يتلقنه المنتمي الجديد، كدليل على التّقيد بالانضباط الحزبي. لهذا، وبعداً عن الإحراج عمدّت التَّشريفات لدى الملوك والرُّؤساء، إلى إبلاغ النّساء: مَن لا تُصافح تتقدّم ضامةً يدها، كي لا يُحرج الملك أو الرَّئيس.
لم تكن مصافحة النِّساء مسألة تسترعي اهتمامنا في القرى والقصبات، فتحصيل حاصل أنّ النِّساء في ظلّ الأعراف كنَ لا يختلطنَ بالرِّجال إلا لماماً، مع التَّذكير بأنّ العمل في الأرياف يجمع بين الجنسين، وأنّ هناك نساء برزنَ متفوهات، ولهنَّ السَّطوة كأُمهات أو زوجات أو أخوات، وقد يهابهنَّ كبراء القوم، مِن شيوخ عشائر، ووجهاء، ووزراء، ورؤساء.
لكنْ أخذ تحريم أو منع المصافحة مداه، وخصوصاً زمن الصّحوة الدّينيّة، وكثرة أتباع الأحزاب الدّينيَّة، فمِن تقاليد المتدين الحزبيّ السّياسيّ، مع وجود شواذ عن هذه القاعدة، التّظاهر أمام الملأ بأنّه لا يُصافح النّساء، مثلما يعتقد ويتظاهر بغيرها مِن التحريمات أو المكروهات، أن أصل ذلك حديث نبويّ يقول: “إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ، إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ مِثْلِ قَوْلِي لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ”(الإمام مالك، المُوطأ). لعلَّ الإمام مالك بن أنس (تـ: 179هـ) كان أول مَن رواه ووصلنا عنه مدوناً، مِن بين كتب الحديث، وقد سمعه عن مُحمّد بن المنكدر (تـ: 130 أو 131هـ) عن أُميمة بنت رُقيقة (ابنة اخت السّيدة خديجة بنت خويلد)، ورُقيقة أُمها.
نقل محمَّد بن سعد كاتب الواقدي (ت: 230هـ) الحديث عن مالك بن أنس، كذلك أتى بروايات متعددة عن غيرها، منها رواية الفقيه عن سفيان الثّوري (تـ: 161هـ)، ورواية أن بين النّساء كانت هند بنت عُتبة زوجة أبي سفيان، التي عاشت حتّى خلافة عمر بن الخطاب (ابن سعد، الطّبقات الكبرى).
مع ذلك، أقول: لا بدّ مِن الشّك في سماع ابن المنكدر عن أميمة، فالرّواية نجدها مضطربة في حياة الأخيرة أو سيرتها، منها أنّها كانت مخضرمة بين قبل الإسلام وبعده، وأسلمت والإسلام في مكة، وعذبت قُريش ابنة لها، فاشتراها أبو بكر الصّديق (الطَّبقات الكبرى)، ولا يوجد تاريخ لوفاتها (ابن عبد البرِّ، الاستيعاب). فكيف سمع منها ابن المنكدر الحديث، وكانت وفاته بعد المائة بنحو ثلاثين عاماً؟!
غير أنَّ أحد أبرز شُراح “الموُطأ”، أبي الحسنات محمّد عبد الحيّ اللَّكنويّ (تـ: 1886) يضع مصافحة النّساء “كراهة” وليست تحريماً، عندما يجعل العنوان “ما يكره مِن مصافحة النّساء” (شرح الموطأ برواية محمَّد بن الحسن)، ولا نعلم هل يقصد التّخفيف أم أنّ الكراهة عنده بمستوى القطع بالتحريم أو المنع البات؟!
جاء في القرآن عن مبايعة النّساء، ولم يُحدّد شروطاً، أو تمييزاً لمبايعتهن، سوى الآتي: “يَا أيُّهَا النَّبِيُ إذا جَاءَك المؤمناتُ يُبَايِعْنَكَ على أن لا يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً ولا يَسْرِقْنَ، ولا يَزْنِينَ، ولا يَقْتُلْنَ أولادَهن ولا يَأتِيْنَ بِبُهتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أيدِيهِنَّ، وأَرْجُلِهِنَّ ولا يَعْصِيْنَكَ في معروفٍ فَبَايِعْهُنَّ واستَغْفِر لَهُنَّ الله (الممتحنة: 12).
غير أنَّ الاحتجاج في عدم مصافحة النّساء، حتّى أصبحت واحدة مِن الركائز لدى الإسلاميين، قبل الحديث المذكور، ما ورد في القرآن: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنْوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّساء» (النِّساء: 43). ويحكي مَنْطوق الآية عن الطَّهارة، وما يمْنَع الصَّلاة: السُّكر، والجُنب (الاحتلام)، والغائط، وملامسة النِّساء.
ويُنقل عن علي بن أبي طالب (اغتيل: 40 هـ) وابن عباس (تـ: 68 هـ) وأبي حنيفة النُّعمان (تـ: 150 هـ): إنّ «المراد به (الملامسة) الجِماع» وليست المصافحة (الطَّبرسي، مجمع البيان). على محمل ليس مِن الدِّين مشابهة قذارة الغائط بمصافحة المرأة! وقال فريق آخر مَثَّله عمر بن الخطاب (اغتيل: 23 هـ) وابن مسعود (تـ: 32هـ) ومحمَّد بن إدريس الشَّافعي (تـ: 204 هـ): «المراد به اللَّمس باليد» (نفسه).
قال الطَّبرسي: «الصَّحيح الأول، لأنّ الله سبحانه بيَّن حكم الجنب في حال وجود الماء…». وورد لدى نجل المفسر أبي الثَّناء الآلوسيّ (تـ: 1854 هـ) أبي البركات نعمان الآلوسي (ت 1899): «قول أبي حنيفة لا ينقض (الوضوء) إلا بالمباشرة الفاحشة» (الآلوسي، غالية المواعظ).
ويأتي شيخ الطَّائفة الطُّوسي (ت 460هـ)، مؤسس الحوزة الدِّينية في النَّجف؛ بما لا يتفق مع رأي متشدّدي العصر، وبينهم الأحزاب الشّيعيَّة. قال: «ملامسة النِّساء، ومباشرتهنَّ لا تنقض الوضوء، سواء كانت مباشرة ذات مُحرم، أو غيرهنَّ مِنَ النِّساء. سواء كانت المباشرة باليد، أو بغيرها مِنَ الأعضاء، بشهوة كانت أو بغير شهوة» (الطُّوسيّ، كتاب الخلاف). فإذا كان هذا ما ورد في القرآن ووضحه الكبار مِن علي بن أبي طالب إلى أبي حنيفة النُّعمان ومحمّد الطُّوسي بجواز المصافحة، فيبقى للحديث: «إني لا أُصافح النِّساء، إنما قولي لمئة امرأة كقولي لامرأة واحدة» (الهندي، كنز العمال)، مناسبة أو سبب، يتحدّد في وقته، شأنه شأن أسباب نزول الآيات، هذا ما إذا كان حديثاً صحيحاً!
قد تكون المناسبة، وجود هند بنت عُتبة، وعلى رواية بما لها دور في قُتل الحمزة بن عبد المطلب (3هـ)، والتّمثيل به (ابن عبد البرّ، الاستيعاب)، وهو عمّ النَّبي، فلم يشأ النَّبي مصافحتها وهي بين النّساء، أو أن يكون عدد النّساء كبيراً، فاكتفي بوضع أيديهن في إناء مِن الماء، مثلما مشهور في الرّواية. فعندما جاء وحشي قاتل الحمزة، مبايعاً تائباً، عفى عنه النّبي، ولم ينظر إليه، وبالتالي لم يصافحه، فقد قال له: “غَيّب وجهك عني يا وحشي، لا أراك” (الاستيعاب).
للأسف نخوض في مثل هذه المسألة وها هو الزَّمن قد تعدَّ الألفية الثَّالثة بربع قرن، وثورة التكنولوجيا أخذت تهزّ العروش، مثل الفايسبوك وتويتر والإيميل، ويستخدم هذه الوسائل في إعلام المحرمين والمحللين لهذه المصافحة، على حدٍّ سواء، وربما يصطدم بهذه المسألة أكثر مَن يُخالط المنتسبين للأحزاب الإسلامية، وهناك مَن يتجاوزها منهم، لسبب وآخر، مثل وصوله إلى قناعة في المساواة، أو على قول “مكره أخاك لا بطل”، في حال مصافحة هيلاري كلينتون مثلاً، وهناك مَن استفتى وحصل الفتوى الإباحة للضرورة.
بعد سُلطة الأحزاب الدّينيّة بالعراق، كنا نلاحظ عند وصول زائرة رسمية أجنبية؛ لدولتها دالة على هذه الأحزاب، تُمدّ الأيدي لمصافحتها مِن قِبل الممتنعين، أو مثلما نقول مطالستها، فما أتذكره كنا نستخدم بمنطقتنا لفظة “المطالسة” بمعنى المصافحة، مِن “طلس” على وزن “مفاعلة”، ورد “طلس” في عدة معانٍ ليس بينها المصافحة، أما معناها «طلسه بالدَّهان» أي غشاه (المنجد في اللُّغة والأعلام)، ويُذكر إنّها سريانية النِّجار، فصاحب المنجد ليس بمعتمد في أًصول المفردات.
نقول: إنَّ جوهر عدم مصَّافحة النّساء، الذي حمل المعاني الدِّينيّة، على ما يبدو، مرتبط جذره بالتَّمييز الاجتماعيّ، فغُطي بأمر دينيّ عبادي، فصار مِن مبطلات الوضوء، بدلالة أنّ الخصم لا يُصافح خصمه، والسيَّد لا يُصافح عبده، والضَّابط لا يبدأ بمصافحة جنوده، بسبب التّراتبيّة الاجتماعيّة، لأنّ “المصافحة”، مثلما ذَكرناها بـ”المطالسة” فيها اعتراف بالمساواة، والمرأة في العرف القبليّ أو العشائريّ، عند العرب والأعاجم أقل درجةً، ولتبرير هذا الفعل ارتبطت بمبطلات الوضوء، وبالتَّالي مبطلات الصَّلاة.
أما عن العذر الدِّينيّ، فأقول: لماذا الذِّهاب إلى الأصعب، وبين أيدينا الأسهل، أهو الرَّغبة بتغليف الزَّمن بصفائح فولاذية، ودحرجة الصُّخور في مجرى الزَّمن المنطلق إلى الأمام بلا عودة. في حالة العِراق هناك 25 بالمئة مِن البرلمان أكثرهنَّ مِمن لا يصافحهنَّ، فهنَّ جمهور الإسلام السياسي؛ وكيف يُنظر إلى المستقبل، والسِّياسي فيه لا يُصافح النَّساء، حيث جمعت النَّظرة إلى المرأة على أنّها مشروع لَّذة ليس إلاّ، وبالتالي تثير الغرائز عند المصافحين، أو لأنّها أقل رتبةً، وهنا يكون التّعامل معها لا لعقلها وشَّخصيتها ودَّورها الاجتماعي!
علمنا شيئاً مِن ممانعة الإسلاميين ورجال الدِّين المسلمين؛ ولم نقل شيئاً عن التَّشدد في عدم مصافحة ومجالسة النّساء عند الهندوس واليهود مثلاً، وقد رأيتُ بعيني تصرفات هؤلاء، وسمعتُ بمثل هذه المواقف، لكن المعرفة تنقصني للبحث في هذا الشَّأن.