ملخص
تعكس أعمال الفنان السوري الأرمني الأميركي كيفورك مراد (Kevork Mourad) في معرضه الذي يقيمه في غاليري تانيت (مار مخايل- يستمر لغاية الـ10 من يوليو)، بعنوان “الوطن الخيالي”، رؤية فنية عميقة تتناول أسئلة حول معنى “الوطن” بعد مغادرته إياه، وما إذا كان الوطن يختفي مع المسافة، أم يتحول إلى أغنية، أو ذكرى متجذرة في الروح.
وُصِف الرسام كيفورك مراد بأنه رائد في التوليف الثقافي وصانعٌ بارع للسرديات المعاصرة. وقد استطاع أن يدمج في أعماله بين الذاكرة والتاريخ والهوية الثقافية، مستلهماً من جذوره الشخصية وتجربته في المنفى، أسلوباً فريداً في التعبير عن أنطولوجيا الهجرات ومشهدية الدمار والسفر في بحار المجهول. اشتهر مراد بتركيباته الضخمة ورسومه الديناميكية التي تمزج ما بين إرث الثقافات القديمة وزخارفها المعمارية، وموضوعات النزوح والصمود أمام تحديات الزمن. من أبرز منجزاته “رؤية عبر بابل”، وهو منحوتة معلقة بطول ستة أمتار أُنجزت عام 2019. كان هذا العمل جزءاً من معرض فردي في المركز الإسماعيلي بلندن، عُرض بالشراكة مع متحف الآغا خان في تورنتو. يُعيد هذا التركيب تخيّل قصة برج بابل في العهد القديم، مشيراً إلى القوة المُوحِّدة للفنون البصرية التي تتجاوز الحواجز اللغوية.
في معرضه الذي يقيمه في غاليري تانيت (مار مخايل- يستمر لغاية الـ10 من يوليو “تموز”)، بعنوان “الوطن الخيالي”، تعكس أعماله رؤية فنية عميقة تتناول تساؤلات حول معنى “الوطن” بعد مغادرته، وما إذا كان الوطن يختفي مع المسافة، أم يتحول إلى أغنية، أو ذكرى متجذرة في الروح. يُظهر مراد كيف أن الذاكرة تعيد تشكيل المعمار من خلال طبقات من القصص والأساطير والتاريخ، حيث تتداخل المعابد القديمة والبيوت التي هُدمت والموسيقى واللغة، لتشكّل وطناً خيالياً قائماً على التذكّر لا الجغرافيا. يعتمد مراد على البُنى القديمة كمرجع بصري، يُعيد تخيّل منازل بلدان الطفولة التي هُجرت أو تحولت جذرياً بفعل الحروب، مستوحياً من المباني التاريخية لمدينة حلب السورية عناصرها البنائية والزخرفية. “هذه الأعمال ليست مجرد إعادة بناء للمكان – كما يقول الفنان – بل هي رموز لما يدوم: دفء المطبخ وانسياب الكتابة اليدوية القديمة وراحة تهويدة متوارثة”.
يدعو معرض “الوطن الخيالي” إلى رحلة تأملية تغذيها قصص تاريخية وشخصية متشابكة، في مناخات طقوسية تغص بالحنين والاستذكار. يمتزج لدى مراد الخيال بالأسطورة والتاريخ، كما يظهر في بعض أعماله التي تستلهم رموزاً دينية أو شخصيات من الحكايات الشعبية، حيث يصير القدّيس سمعان الجالس على عموده بالقرب من حلب صورة للقداسة والمتانة، بل وأيضاً ملمحاً من ملامح العبث الإنساني، ليؤكد أن الأماكن لا تموت إذا بقيت عالقة بذاكرتنا وطقوسنا.
بين الهشاشة والصمود
thumbnail_أوقات الحصاد- سلسلة من 24 لوحة- اكريليك وزيت على قماش- 2018.jpg
“أوقات الحصاد” سلسلة من 24 لوحة أكريليك وزيت على قماش (اندبندنت عربية)
القوة والزخم والتدفق الهائل هي السمات التي تميز أعمال هذا الفنان، بما تحمله من طابع غرافيكي وخطاب بصري، يتجلى بأسلوب خياليّ فانتازي Fantastic أو ما فوق الواقعي، يستند في أسس جمالياته إلى الرسم بالحبر الأسود على قماش قطني رقيق، ضمن علاقة تكاملية بين الأسود والأبيض وتدرجاتهما من ألوان الرمادي فضلاً عن درجة “أزرق الجينز” Blue Jeans. وقد استخدم الفنان تقنيات القص والتفريغ والترصيع اللوني لابتكار سرديات بصرية مبهرة، تنبثق من التراث الأرميني والسوري مندمجة بالوسائط المعاصرة في الثقافة الأميركية، فالخامة التي يعمل عليها مراد تكاد تكون عنواناً للهشاشة والصمود في آن واحد، مستحضرة العلاقة الوجدانية ما بين الفارغ والملآن والحضور والغياب.
أما المشهدية التي يضفيها على لوحاته ومُعلقاته وإنشاءاته في الفضاء، فتحيل إلى قماشات رقيقة مزخرفة أشبه بمخرّمات الدانتيلا، حيث تنسج الخطوط المتشابكة والمتواشجة والمترابطة، أشكالاً وتحوكها على هيئة متاع محزوم بحبال تشير إلى أواصر الجذور المقطوعة. تكاد المدينة تبدو كخيمة محزومة بسواعد تشد لحمها وعظامها من الداخل، كي لا تضيع أو تتناثر، فالحبال هنا تكتسب دلالات رمزية تشير إلى الرحيل، وإلى محمولات الذاكرة التي تصير جسداً ممزقاً أو قارباً يعوم ليغرق في بحر النسيان. وتغدو الأشكال طوطمية، بتلافيفها ونسيج خطوطها المعقدة وروابطها وعُقدها وانفراجاتها، كأنها غابة تتقلب في أعماقها كتل غامضة، أشبه بغصون أشجار، تتبدى أحياناً كأجساد مُقيدة، جذوعها مرصعة بحبيبات الضوء في عتمة الليل، أو مطلية بصفائح من ذهب وفضة، تلمع كبريق الأيقونات، وسط ظلمة الخوف. وعلى أرض القداسة، ثمة عروش مضطربة وأبنية منهارة وأبراج شاهقة وسلالم لا تفضي إلى مكان، بل تقود إلى دهاليز تزداد حلكتها كلما توغلنا فيها. وكأن الفنان يبحث عن ميتافيزيقيا الأشكال، عن سر الحياة وعن المعنى العميق للفقد والوجود.
thumbnail_كيفورك مراد- خيوط نسيج الثقافة- اكريليك على قماش قطني- 2025.jpg
لوحة أخرى من المعرض (اندنبدنت عربية)
المعمار هو أكثر ما يتبقى من الأثر، غير أن عمائر مراد تبدو مقطوفة من ذكريات قلاع وأبراج تعود إلى آثار العصور الوسطى، أبنية بعقود مستديرة وقباب وعقود داخل هياكل مهزوزة وأعمدة صامدة في وجه الزمن. فالصور الاستعارية فيها تبدو مستلهمة من تأثيرات مرجعيات بصرية تتصل بدير سمعان العمودي قرب حلب ببنائه “الرومانسكيّ” Romanesque التاريخي، وتندمج مع استذكارات نابعة من مشاهدات الطفولة، المشبعة بغنى التراث الأرميني والسوري على السواء، فضلاً عن البعد الخيالي والأسطوري. ومن إراث تلك المرجعيات تنهمر الصور وتتدفق المشاعر لتسجل على صفحات القماش عناق الأمومة وأجساداً متداعية وحصوناً مندثرة وآثاراً ضائعة، وكتابات بلغة سائلة ينبض حبرها بالنور، أشبه برسائل عاطفية دافئة وعاطفية، أو بصحف منشورة تتدلى بحبال واهنة من سقوف الذاكرة البعيدة.
الإبحار إلى اللامكان
يتصدر المعرض في غاليري تانيت، عمله التركيبي “شجرة الحياة”، بأقسامه الثلاثة، هو بمثابة سفر نحو الماضي الذي يلقي بظلاله على الحاضر، بل كأنه قراءة في طلاسم النقوش البارزة المحفورة على جدران المعابد القديمة في حضارات ماري وبلاد ما بين النهرين. أوشامٌ ونقوش ووجوه مندثرة وطلاسم، وكتابات وقرابين وأدراج ونوافذ بيوت وعقود وقباب وأصداء آتية من أحياء مدينة متشظية. هذا التشظي يتبدى داخل التركيب بالفراغ الذي يفصل بين أقسام العمل التجهيزي، المؤلف من ثلاث طبقات متتالية من اللوحات القماشية المتدلية، تُمثل كل منها علاقات مختلفة، من سلالات حضارات وأنماط حياة ومآزق وجود وضياع.
الرسامة ليلى داغر تنسج مدينة من ورق وخيطان
الرسام مازن كرباج يقاوم محو الذاكرة الفلسطينية
والعمل التركيبي الثاني “الإبحار إلى اللامكان”، فهو نموذج مصغر عن العمل الفني الضخم الذي صمِّم خصيصاً ليتصدر معرضه في مركز شين الفني the Sheen center في نيويورك (يناير “كانون الثاني” 2024) الذي يسعى منذ أعوام إلى التواصل مع الفنانين العرب لتعزيز الحوار بين الثقافات والأديان. ويتجسد التركيب في قارب قماشي بأشرعة من ثلاث طبقات، مصنوعة من رسوم لهياكل ونوافذ وأقواس وقطع أثرية قديمة، مستوحاة من حضارات بلاد ما بين النهرين بأسلوب طباعي. الهيكل بأكمله مصنوع من قماش قطني، مطلي بطلاء أكريليك قرمزي وأسود. أما قاع السفينة فهو مفتوح، مزين بوجوه مستعارة من حضارات قديمة تتلاقى لتعكس مجموعة من الهويّات: وجوه رومانية ويونانية وعربية وأرمينية. وما بين هجرات الماضي والحاضر يستحضر هذا العمل الرمزي صوراً من جوازات سفر تعبيراً عن نزوح السوريين عبر البحر وما يتعرضون له من حوادث الغرق في قواربهم المتهاوية، والطرق التي يسلكونها هرباً من العنف، والقصص التي يحملونها معهم.
كذلك تشمل أعماله سلسلة من 24 لوحة صغيرة ملونة، تعكس تأملاً حميمياً في علاقتنا بالأرض: الزراعة والحصاد والحوار الهادئ بين التربة واليد. تُكرّم هذه الأعمال حياة المزارع وأدواته وعلاقته بأرضه، وتدعو إلى تأمل قضايا الجذور والانفصال والحنين، مبينة كيف أن الأرض التي نتركها تبقى حية في داخلنا، شأنها شأن القصص التي نحملها وتظل تسكننا.
في وطنه المتخيّل يرى كيفورك مراد أن على الفن أن يتحمل مسؤولية توثيق الزمن، كذلك يطرح تساؤلات جوهرية: “ماذا نحمل معنا عندما نُجبر على الرحيل؟ ما الذي يُدفن وما الذي يبقى في الذاكرة؟ وكيف يُمكن للرعاية الفنية أن تُعيد إحياء ما فقدناه؟ هكذا تسعى أعماله إلى تقديم إجابات بصرية وشاعرية عن تلك الأسئلة، وإلى إعادة صياغة العلاقة بين الإنسان والوطن، وبين الذاكرة والهوية.