عندما تدخل الحرب في طورها الجديد، لتشهد على أول مواجهة مباشرة بين إيران وإسرائيل، تدور في عمق الدولتين وعلى أرضهما، تصبح فلسطين ومعها لبنان، اللذين كانا شرارة الحرب وجبهتها الامامية، بمثابة جبهات خلفية، جبهات إسناد ومشاغلة، تلحق بهما خسائر وأضرار جانبية..برغم فداحتها وهول أرقامها.
لم يعد هناك منطق للقول أن الطرفين الإسرائيلي والإيراني، يدفعان الأمور بينهما نحو حافة الهاوية. العالم كله يقف معهما اليوم عند تلك الحافة، بينما هما يؤكدان أنهما لم يعد هناك مجال للتردد والتحفظ في خوض الحرب المباشرة، وسقط حاجز الخوف من بلوغ ذلك الخيار. الضربات المتبادلة حالياً تفصح عن المدى الذي يمكن ان تبلغه الحرب، والتي ستكون كما يبدو، بلا سقف وبلا حدود ولا قيود، وستنتهك آخر المحرمات، وأقدس الأهداف وأعمقها..وتمس هذه المرة مستقبل النظامين وتحدد دورهما وعلاقتهما لسنوات او عقود مقبلة.
لا يقع استهداف منزل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ضمن هذه “المحرمات”، لكنه يوضع داخل هذا الأفق المظلم للحرب. تفاعلَ الجمهور الإسرائيلي مع ذلك الاستهداف بأشكال شتى، بين الذهول امام قدرات ايران العسكرية ودقتها، وبين السخرية والشماتة بنتنياهو، بل ومحاولة اقتحام منزله المستهدف لمطالبته بصفقة عاجلة لاستعادة الرهائن الإسرائيليين من قطاع غزة. لكن مظاهر تلك العلاقة الموضوعية “بين المواطن والمسؤول” في دولة إسرائيل، أطلقت العنان لموجة من التحليلات الاستثنائية حول توسيع قائمة الأهداف الإيرانية الحساسة التي ستضربها الصواريخ الإسرائيلية والأميركية داخل طهران بالتحديد!
ربما ساهمت إصابة منزل نتنياهو في حسم الجدل الأميركي الإسرائيلي حول توقيت تلك الضربة، التي كان ولا يزال يفترض، حسب واشنطن، ألا تقود الى حرب شاملة، تشبه غزو العراق في العام 2003، لكنه لا يزال يرجى ان تهز أركان النظام الإيراني..الذي بادر في الأيام الماضية الى خوض معركة إستباقية واسعة النطاق على الجبهة اللبنانية، بمئات الصواريخ وعشرات المسيرات يومياً، هدفها الجوهري إبلاغ الاميركيين والإسرائيليين بما ينتظرهم إذا ما جرى المس ب”المحرمات” في طهران.
بالمقارنة مع هو آت، يبدو أن كل ما جرى حتى الان، بين إيران وإسرائيل، أشبه بمناورات عسكرية بالذخيرة الحية، إختبرت فيها مختلف أنواع الأسلحة ومداها وقوتها، بما يمهد لفرصة توجيه الضربات القاضية، التي يفترض أن يرفع بعدها أحد البلدين، أو كلاهما معا، راية الاستسلام، ويعلن الاستعداد للتفاوض على وثيقة تنهي جميع أسباب الصراع الثنائي.
الوقت الآن ليس للسجال حول ما اذا كانت إيران هي التي أشعلت تلك الحرب وقدمت حلفاءها قرابين على مذبح مصالحها الوطنية، او حول ما اذا كانت إسرائيل هي التي وسّعت تلك الحرب وجرت الاميركيين الى خوضها وتحويلها الى مرجلٍ تحرق فيه جميع أعدائها وخصومها، وتغير وجه الشرق الأوسط مرة والى الابد. الوقت الآن هو للاكتفاء بالتفرج على تلك الحرب المباشرة، الأولى من نوعها في التاريخ، ولو من تحت المنازل المهدّمة او المتصدعة، أو من داخل خيم النزوح المشرّعة.
سيناريوهات يوم القيامة التي يجري تداولها هذه الايام، في كل من واشنطن وتل ابيب، لم تعد مجرد أدوات في الحرب النفسية، أو ورقة على طاولة التفاوض، التي طويت نهائياً، ولم يبق هناك من فرصة لاستئنافها، إلا بعد الاختبار النهائي القوة العسكرية والتعديل الجذري لموازين القوى السياسية..الذي يقال أنه سيكون هذه المرة خاطفاً، وقاسِماً.
في هذه الحالة، يصبح توق لبنان الى وقفٍ لاطلاق النار خيالاً بعيداً، مثلما كان سعيه الى ملء الفراغ في رئاسة الجمهورية مزاحاً ثقيلا. وما على اللبنانيين سوى ان يحسبوا أنه لن يصيبهم سوى ما كُتِب لهم من صواريخ، كما كُتِب على فلسطينيي غزة من قبلهم، ان يظلوا سيلاً دافقاً من الدم.
بيروت في 20 / 10 / 2024