أشاهدهم مرّة بعد مرّة، محمولين على الأذرعة، يجلونهم من مستشفى الشفاء، ثم ممددين على سرير طبي كبير. يتسع لكثير من هذه الأجساد الصغيرة، التي ولدت قبل أوان الولادة. خُدّج يسمونهم. بعضهم تختلج أطرافه. البعض الآخر نائم. واحد عينه متورمة ومغلقة بسبب الجرح الذي يمتد طولياً من جبينه إلى خده. أريد لعينه ألا تكون قد أُطفئت. حفاضاتهم هائلة على أطرافهم الدقيقة. معظمهم أفواههم موصولة بأنابيب تغذية. كم عددهم؟ لا أجيد العد. أطارد ملامحهم قبل أن يعاد المشهد من أوّله. مرة بعد مرة، أصير قادراً على التمييز بين وجه ووجه. لا أسماء لهم ولا نعرف جنسهم. للوهلة الأولى نظنهم متشابهين، لكنهم ليسوا كذلك. حين نحدق في المشهد المتكرر نعلم أنهم ليسوا متشابهين. ليسوا أخوة بالطبع. لكن من يدري، قد يكون بينهم توائم. كم واحداً منهم سينجو؟ كم واحد سيغادر قبل أن يتم شهوره التسعة الأولى في الوجود؟ أين سيذهبون بعد أن أجلتهم إسرائيل من مستشفى الشفاء؟ أين أمهاتهم أصلاً؟ هل كانت فيهن روح حين خرجوا من أرحامهن؟ أين يذهبون لأن جيش “الدفاع” الإسرائيلي يقتحم مستشفى ويحتلها. يمارس هوايته التاريخية في الانتقام من الفلسطيني لأنه يرتكب مجدداً خطيئة بقائه. يطرده من من مكانه قبل أن يولد رسمياً. يصير لاجئاً قبل أن يحمل اسماً. قبل أن يصير قادراً على التنفس من دون جهاز. قبل أن يميّز رائحة أمه ويكتشف ملمس جلدها على جلده.
أي هول هذا الذي لم نر يوماً مثله؟ أي هول يكفي إسرائيل لتقول الآن ارتويت؟ الدمار التوراتي الهائل الذي تلحقه بالفلسطيني لا يروي. العائلات التي دفنت تحت الركام لا تكفي. الأرقام التي بلغت حداً غير منطقي حتى في الزلازل لا تكفي. الأطفال. ذاك الخيط الطويل الطويل من الأرواح أولها على الأرض وآخرها يقف عند باب السماء. الدم. الأطراف المبتورة. المحروق جلدهم والمحروقة قلوبهم. الفاجعة الجماعية التي يتفرّج عليها الكوكب. دولة بكامل حديدها ونارها، متروكة تنهش في لحم فريستها. وكلما أوغلت في القتل ازداد طول مخالبها وأنيابها وحقدها وجنونها. هذه ليست جريمة أخرى يضيفها الفلسطيني إلى كتاب تاريخه مع إسرائيل والعالم. هذه ليست لحظة أخرى يقول فيها لنفسه “كم كنت وحدك يا ابن أمي”. هذه ملحمة يكتبها القاتل بدم قتيله. قاتل بخيال مريض، يطرد الخُدّج من أسرّتهم ليسجل انتصاره الرمزي الأخير، ليقول للفلسطيني إنه سيظل يخنقه ويقتله ويطرده من أرضه ثم يخنقه ويقتله ويطرده من أرضه.
لكنّهم هنا. هذه أطرافهم الشديدة النحول تتحرك، وهذه شفاههم عطشى لكنها تطالب بالماء، وهذه عيونهم غارقة في محاجرها لكنها تتلفت. لكنها ترى. بدأت تجمع الذكريات. سيكبرون وسيعرفون. الظالم قد يتعب من الظلم يوماً لكن المظلوم لا يتعب من الذكريات.