بعد أن دخلت الحرب الإسرائيلية على غزة اسبوعها السادس، هذه الحرب المجنونة والحافلة بالمشاهد المأساوية والفظاعات بحق المدنيين الأبرياء من سكان غزة العرب الفلسطينيين، الذين حولتهم حركتي “حماس والجهاد” الإسلاميتين إلى دريئة يصوب عليها الغضب الإسرائيلي المنفلت من أي عقال، وذلك بعد القرار المتهور وغير المدروس بافتعال حرب لم توفر بدورها المدنيين مع الدولة العبرية فائقة الإمكانيات، والحائزة على انحياز  وتعاطف المجتمع الدولي وبخاصة دول حلف الناتو وأمريكا.وبعد أن أصبح أكثر من نصف بيوت غزة على الأرض، ومشافيها ومرافق الحياة فيها مقوَّضةأو مشلولة عاجزة عن تقديم أية خدمات تذكر، بعد كل ذلك يتداعى رؤساء وملوك سبع وخمسين دولة عربية وإسلامية إلى لقاء قمة تعقد في مدينة جدة السعودية، وفي إطار مؤتمر قمة غير عادي لدول الجامعة العربية وقمة مجلس التعاون الإسلامي، للنظر في تطورات الحرب ولاتخاذ الموقف منها.

فالقمة المتأخرة جداً في توقيتها عن مستوى الأحداث، والمتواضعة إلى حد كبير في طبيعة الإجراءات والمواقف الفعلية المتخذة لوقف مسلسل الإبادة والتهجير بحق أكثر من مليون ونصف من السكان، لم تكن، ورغم رزمة القرارات التي تضمنها البيان الصادر عن أعمال القمة والتي تجاوزت الثلاثين بنداً وتوصية، لم تكن في جوهرها وفي الممارسة العملية على الأرض أكثر من تطور، جاء لرفع العتب ودفع الإحراج المتشكل في الشارع العربي والإسلامي، ولمداورة مشاعر الاستياء المتنامي في كل مكان وعلى النطاق العالمي.بمعنى أنه إجراء طقسي صار مفهوماً ومتوقعاً بعد كل حرب أو أزمة تندلع بين العرب وإسرائيل.

ولا شك بأن إسرائيل ومخطط الحرب فيها وداعميها، قد أعدّت الحساب لمثل هكذا ردود أفعال، وقد يكون لقرارات القمة بعض الدور في إقناع الإسرائيليين بأن الوقت المتروك لهم في إنجاز أهداف هذه الحرب في غزة قد بدأ ينفذ، وبأن عليهم الإسراع في إنهاء مهام الحرب، الأمر الذي بتنا نلحظه عبر اشتداد وتيرة القصف والذي وصل الى تدمير مباشر للمشافي، وكذلك عبر تصريحات القادة الإسرائيليين التي تفيد بأن الوقت الذي بقي متاحاً لهم لا يتعدى الأسبوعين، ويجب بعدها لزاماً عليهم القبول بوقف إطلاق النار.

وبصرف النظر عن مفاعيل الضغط المتشكل بعد القمة  أو على مستوى الرأي العام العالمي؛ فيجب أن يكون واضحاً ان أعمال القتال مستمرة ومتجهة نحو تحقيق الغرض من الحرب، ولم يتراجع المزاج الإسرائيلي العام   في دعم مسار الحرب وكذلك القرار السياسي، في  إنجاز ما أعلنه رئيس الوزراء الإسرائيلي يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بأن إسرائيل اليوم في حالة حرب وتتجه في حربها نحو هدفين، الأول هو القضاء على  قوة “حماس” و”الجهاد” الإسلاميتين، كخطوة حتمية لايمكن لإسرائيل التخلي عنها أو القبول بأقل منها. وهنا تحضر إلى ساحة الذاكرة أحداث عام1982 في بيروت والتي بنتيجتها خرجت يومها قوات منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة “ياسر عرفات” من بيروت إلى تونس. والهدف الإسرائيلي الثاني؛ العمل على تغيير وجه الشرق الأوسط بأكمله، ما يعني أن الحرب هي لتقويض قوة “حزب الله”الموضوعة على الرزنامة الإسرائيلية والأمريكية، إنما في التوقيت الذي ينسجم مع الشروط والأوضاع الإسرائيلية. هذه المسلمة التي تجاهلتها خطابات “حسن نصرالله”  الأمين العام لـ”حزب الله” المتكررة بعد اندلاع الحرب، والتي لابد أنها قد عكست جواً من العجز عن الدخول في الحرب إلى جانب حلفائه في غزة، انسجاماً مع كلامه المتكرر عن وحدة الساحات في المواجهة مع العدو الصهيوني.

وبالعودة إلى موضوع القمة، ومع التسليم ببديهية أن القمم من هذا النوع لاتشكل عاملاً موضوعياً كبير التأثير في موازين الصراع،إلا أن القمة الأخيرة المزدوجة المستوى، والتي جمعت معاً قادة العالم العربي والإسلامي وأعادت تسليط الضوء على أهمية “القدس الشريف” وضرورة التصدي لتهويدها، فقد حملت القمة العديد من الإشارات والرسائل، كان من بينها حضور الرئيس الإيراني والتركي، واللذين حاولا في كلماتهما أمام القمة مع الأمير القطري أن يبرزا بعض النكهة المختلفة التوجه والقريبة من توجهات الإسلاميين في المنطقة، حيث كاد الرئيس الإيراني يتفرد باتهام الولايات المتحدة الأمريكية بالعمل العميق لإعاقة  الجهود الدولية الرامية إلى وقف إطلاق النار. في حين ذهب الرئيس التركي أردوغان في تغطيته على عمق علاقات بلاده مع إسرائيل، إلى التركيز على اكتشاف كبير، مفاده أن الأزمة في المنطقة سببها غياب الحل الشامل بين العرب وإسرائيل.

ومن النقاط الأخرى اللافتة ضمن أعمال القمة، هي مشاركة الرئيس السوري “بشار الأسد” في دورة الانعقاد الأولى بعد عودة سوريا إلى الجامعة العربية والتي توجت في قمة جدة السابقة. هذا الحضور الذي توقفت عند دلالاته الصحافة التركية مؤخراً، مرفقة بتسجيل فيديو يصوره إلى يمين ولي العهدالسعودي الأمير “محمد بن سلمان”، فيما يظهر الرئيس التركي أردوغان على يساره في لقطة واحدة، الأمر الذي اعتبرته الصحافة التركية إنجازاً طالما سعت إليه الدبلوماسية التركية على  مدى الأشهر السابقة.

وفي الدلائل والمعاني أيضاً؛ أن البيان الختامي الذي أدان الهجوم الإسرائيلي ورفض التبريرات الذاهبة على وصفه بأنه إجراء يندرج ضمن الدفاع عن النفس، بل وصفه بأنه، وجريا مع مزاج الشارع العربي والإسلامي جريمة حرب ويمثل خرقاً سافراً لاتفاقية جنيف الرابعة.ودعا إلى تأييد جهود السلطة الفلسطينية في توفير شروط الملاحقة القانونية للحكومة الإسرائيلية على جرائمها وخرقها للقانون الدولي. كما دعا المؤسسات الدولية والمجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياته في وقف العدوان ومنع تهجير المدنيين من بيوتهم، ..كما حث على الإسراع في تقديم مساعدات الإغاثة. وقد عكف البيان في أكثر من نقطة على أن من أسباب المأساة الأساسية هو التأخر في إحلال السلام العادل وفي تطبيق القرارات الدولية، وعدم الجدية في اعتماد حل الدولتين وحق العودة، وضمان عودة الأراضي المحتلة. وفي هذا الاطار ما يجدر ذكره أن البيان قد أعاد التأكيد على مبادرة السلام العربية.

بقي أن نشير إلى نقطة هامة، وفيما يُعَدُّ غمزاً ضمنياً من قناة “حماس والجهاد” الإسلاميتين في خرقهما لوحدة الصف الفلسطيني، حين ذكر في البند 24 بأن القمة تؤكد على دور منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، وعلى ضرورة انصياع كافة الأطراف والمنظمات والقوى تحت قيادتها.