وسط ردود الأفعال المتنوّعة، تساءل البعض عن سبب التحوّل السريع في المزاج العام السعودي تجاه القضية الفلسطينية، الذي وصل حدّ صمت شعبي خائف حتى من انتقاد وسائل الإعلام الرسمية على عناوينها. وفي هذا السياق، يصعب لوم شعب عاجز عن المطالبة بحقوقه ومنزوع الفاعلية السياسيّة، على تغيير مواقفه تجاه قضايا خارجية.
أثارت ردود فعل حسابات سعودية على وسائل التواصل الاجتماعي جدلاً واسعاً إثر إعلان مقتل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس يحيى السنوار. إذ عبّرت تلك الحسابات المرتبطة بما يعرف بـ”الذباب الإلكترونيّ” و”الجيش السلماني” عن بهجتها بالخبر، وتأكيد بعضها عدم علاقة السعودية بـ”القضية الفلسطينيّة”.
برز دور هذه الحسابات في الأزمات الكبرى التي مرت بها السعودية خلال السنوات الأخيرة، مثل حصار قطر، الإطاحة بولي العهد السابق محمد بن نايف، مقتل الصحافي جمال خاشقجي، واحتجاز شخصيات سياسية مهمة مثل سعد الحريري في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، وغيرها من الأحداث التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بتوجّهات السياسة السعودية الجديدة بقيادة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
على الرغم من أن ولي العهد السعودي يحاول إخفاء ارتباط هذه الحملات الإلكترونية بسياساته، فإن العالم يدرك تماماً حجم القمع وتكميم الأفواه في المملكة، الذي وصفته أمنيستي بـ”القمع الصارخ”، والذي حدّ من ظهور كتّاب الرأي والصحافيين، وخلق وجوهاً وأسماء جديدة تتصدر المشهد، ناهيك بالتضييق حتى على مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي والصفقات مع المنصات الكبرى للتضييق على أي انتقاد يوجَّه الى محمد بن سلمان ورؤيته.
ليس الحسابات الإلكترونية وحدها التي قادت هذا الاحتفاء السعودي بل احتفت عناوين الصحف السعودية الرسمية نفسها بهذا الاغتيال، إذ جاء في الصفحة الأولى لصحيفة عكاظ مانشيت، “إسرائيل تلحق السنوار بهنية… حماس بلا رأس”، أما قناة “MBC” السعودية فبثت تقريراً في برنامجها “MBC في أسبوع” يوم الجمعة، بعنوان “ألفية الخلاص من الإرهابين”، استعرضت خلاله شخصيات قيادية لتنظيمات إرهابية بينهم أسامة بن لادن، وقادة ما يوصف بـ”محور المقاومة” الذي تقوده إيران، بينهم يحيى السنوار وسلفه اسماعيل هنية الذي اغتيل في طهران في تموز/ يوليو الماضي. ويصف التقرير حركة حماس وقيادات حزب الله بـ”الإرهابيين”، علماً أن السعوديّة لا تصنف الحركة كـ”جماعة إرهابيّة”.
حملة مقاطعة ورد فعل عراقي على MBC
واجه التقرير غضبا شعبياً بلغ حدّ اقتحام مئات العراقيين في بغداد مكتب القناة، احتجا جاً على الإساءة إلى “رموز المقاومة” بحسب وصفهم، وبعدها بساعات قليلة أعلن العراق وقف عمل مكتب قناة أم بي سي وإلغاء الرخصة الممنوحة لها من هيئة الإعلام لمخالفتها لوائح البثّ الإعلامي.
كما دعت “حركة مقاطعة إسرائيل” إلى مقاطعة قناة MBC وغيرها من القنوات السعوديّة والإماراتيّة بوصفها “أبواق العدو الإسرائيلي الناطقة بالعربية”، فمقاطعتها “ضرورةً ملحّة”.
كما هو متوقع من سياسة السعودية تحت حكم ولي العهد السعودي، أعلنت الهيئة العامة لتنظيم الإعلام السعودي عبر بيان رسمي، عن استدعائها كبار مسؤولي “إحدى القنوات التفلزيونيّة” للتحقيق في “مخالفة الأنظمة والسياسة الإعلامية السعودية” من دون أن تحدد أي قناة بالضبط.
جدير بالذكر أن القنوات السعودية الخاصة، وعلى رأسها مجموعة أم بي سي المملوكة من الوليد الإبراهيم، وروتانا المملوكة من الوليد بن طلال، باتت تحت سيطرة الديوان الملكي منذ اعتقال المالكين من ضمن مجموعة اعتقالات الريتز الشهيرة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، وحركتهما وأسرهم مقيّدة منذ ذلك الحين.
وسط ردود الأفعال المتنوّعة، تساءل البعض عن سبب التحوّل السريع في المزاج العام السعودي تجاه القضية الفلسطينية، الذي وصل حدّ صمت شعبي خائف حتى من انتقاد وسائل الإعلام الرسمية على عناوينها. وفي هذا السياق، يصعب لوم شعب عاجز عن المطالبة بحقوقه ومنزوع الفاعلية السياسيّة، على تغيير مواقفه تجاه قضايا خارجية.
الظروف الحقوقية الصعبة التي يمر بها السعوديون، وسط سياسة تكميم الأفواه وانعدام حرية التعبير وعقوبات السجن بحق كل من ينتقد محمد بن سلمان ولو بمنشور أو تغريدة، تشي بأن كل من كتب رأياً يعارض “صفقة القرن”، عرّض نفسه لخطر الاعتقال أو تضييق الخناق عليه.
يتزامن التضييق الشديد على حرية التعبير مع انقسام منطقة الخليج إلى محورين رئيسيين، قطر والإمارات، وفي ذاك السياق أصبحت السعودية في وضع التابع لا الصانع، تتأرجح بين المحورين من دون استراتيجية واضحة.
بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر والأحاديث عن أن عملية طوفان الأقصى هدفها عرقلة مسار التطبيع بين السعودية وإسرائيل، برز الموقف السعودي الرسمي الذي اكتفى بالإدانة، إذ دعت المملكة عبر وزارة الخارجيّة إلى “الوقف الفوري للتصعيد بين الجانبين، وحماية المدنيين، وضبط النفس”. كما نددت باغتيال اسماعيل هنيّة واحتلال الجيش الإسرائيلي محور فيلادلفيا، لكن ترافق هذا الموقف مع تشديد على التعبير عن التضامن مع فلسطين خلال الأنشطة الثقافية والفنيّة التي تنظمها السعوديّة، خصوصاً موسم الرياض، الذي لم يتوقف أو يؤجَّل في نسخه التي تزامنت مع حرب الإبادة التي تُشنّ على قطاع غزة، بل وصف تركي آل الشيخ من “يزاود على السعوديّة” بخصوص موسم الرياض بـ”التافهين”.
محمد بن سلمان يتخبّط بين إيران وإسرائيل
يبدو أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، أصغر قادة الخليج سنا، يعيش حالة من التردد والتخبط في هذه المرحلة التي تبدو انتقالية للمنطقة بين مسارين: الاستمرار في سياسة أقرب الى سياسات تميم، أي عدم إغضاب إيران، بخاصة وأن مصالحة السعودية وإيران أخذت وقتاً طويلاً، وإن كانت شكلية، أو منافسة بن زايد على إرضاء إسرائيل وبناء علاقة قوية واضحة من دون خوف.
منذ السابع من تشرين الأول، تأرجحت سياساته بين تصريحاته التي يتصدرها صورياً وزير خارجيته فيصل بن فرحان بصورة المدافع الصارم من أجل القضية الفلسطينية، وبين تسريبات الصحافة الغربية التي تكشف اتصالات مع إسرائيل وأميركا لبحث مسألة التطبيع.
ويبدو أن قرار تأجيل التطبيع مع إسرائيل يرتبط بعوامل عدة، من بينها الرغبة في استخدام الاتفاق كورقة رابحة مع الرئيس الأميركي القادم، إلى جانب الخلافات الداخلية بين الملك سلمان وابنه. إذ قيل حينها إن الملك سلمان كان فوجئ بالإعلان عن اتفاقية إبراهيم، ما أثار المخاوف حول مستقبل المملكة مع كل إعلان عن تدهور صحة الملك.
التكسّب السياسي السريع
ردود الفعل السعودية إثر مقتل السنوار، بعد اغتيالات لقادة مثل إسماعيل هنية وحسن نصرالله، قد تكون مؤشراً الى محاولة ولي العهد تحقيق مكاسب سريعة بتحديد الطرف الأقوى في المعادلة الإقليمية. هذا التكتيك يعيد إلى الأذهان تصرفاته عام 2016، حين دعمت السعودية بقوة حملة هيلاري كلينتون في انتخابات الرئاسة الأميركية، لكنها انقلبت سريعاً لدعم دونالد ترامب بعد فوزه، وهو ما دفعه الى مواجهة خاشقجي وإسكات آخرين انتقدوا ترمب كرئيس أميركي منتخب حينها.
ما نراه اليوم هو استمرار لسياسات القمع التي بدأت منذ ذلك الحين، وصولاً إلى واقع أصبحت فيه الدولة تعتمد على أبواق وقنوات إعلامية لتمرير سياساتها وتبرير خياراتها الإقليمية، من دون اكتراث بتداعياتها على المستوى الشعبي. إلا أن ردود الفعل العربية الشعبية على تقرير أم بي سي وما آلت إليه الأمور، قد تعيد حسابات السعودية في أسلوب تعاملها مع الحريات في المنطقة بكاملها وليس فقط في السعوديّة.
إقرأوا أيضاً: