بعد أن مرّ ما مرّ، يمكن تجاوز بعض ما في التكرار من سماجة، للتذكير بأن «بسبوسة» قد أشعل شرارة الربيع العربي في 17 ديسمبر 2010. وبسبوسة هو لقب محمد البوعزيزي، الذي أحرق نفسه في سيدي بوزيد يومها، بعد أن ضربته شرطية وأمعنت في إهانته ومصادرة بضاعته من الخضار على عربته. قالت له» ارحل» بالفرنسية، لطرده من دون عربته، فأصبحت تلك الكلمة شعاراً شاملاً يطلب الرحيل والتنحّي من القادة هنا وهناك.. بعد أمجاد الربيع السلمية صار ما صار، وليس هذا هو المقصود هنا بهذه الإشارة، بل ما يلي:
ففي 11 يوليو في سنة اندلاع الربيع العربي وبعد أقلّ من أربعة شهور على بداية الثورة السورية، اضطرت دافني ليف، وهي محررة فيديو إسرائيلية أصغر من البوعزيزي بعامين، إلى إخلاء شقّتها في وسط تل أبيب، بسبب أعمال تجديد في البناء. بعد ذلك صعقها ارتفاع أجور السكن الكبير في المدينة. لم يكن منها إلّا أن اشترت خيمة ونصبتها في ساحة مهمة، كما أنشأت صفحة على فيسبوك. دعت الإسرائيليين إلى مشاركتها الاحتجاج، وابتدأ الاعتصام، والمظاهرات تكبر على التدريج حتى ملأت شارع روتشيلد والأحياء المحيطة به. وفي الشهر السابق على ذلك، كان» اعتصام القريش» الذي تمّ تنظيمه والحشد من أجله عن طريق فيسبوك، احتجاجاً على ارتفاع أسعار المواد الغذائية، خصوصاً ذلك النوع الشعبي.. نجح الاعتصام وحقق نتائج باهرة، ونجح أول استخدام سياسي لوسائل التواصل الاجتماعي في إسرائيل، بعد أن كانت أداة الربيع العربيّ البارزة أيضاً.
أُطلق على موجة ذلك العام من التظاهرات اسم «الاحتجاجات الاجتماعية». وفي ربيع العام الماضي، لم يتراجع نتنياهو وحلفاؤه من اليمين الديني- القومي المتطرّف، عن ضغوطاتهم من أجل تعديل صلاحيات المحكمة العليا والحدّ منها، حتّى يستطيع التملّص من محاكماته في قضايا فساده المعروفة. انطلقت حركة تظاهر واسعة النطاق، تضمّ مئات الألوف في تل أبيب أيضاً، وعشرات الألوف في القدس وغيرها. وكان لوسائل التواصل الاجتماعي كذلك دورها الكبير في حشد قوى الشباب خصوصاً، تلك الأكثر وعياً ومدينية بكثير من المجاميع الموتورة، التي تجد أرضاً مناسبة بين غلاة المستوطنين في الضفة الغربية، حيث تصل عدوانية حركتهم إلى الحدود القصوى.
ربّما كانت موجات التظاهرات الإسرائيلية أقرب إلى التكامل نسبياً مع الطموحات الفلسطينية والمشرقية، ممّا تفعل أيديولوجيات وسياسات وبنى أنظمتنا وميليشياتنا التي تُفتّتُ دولنا ولا تتراجع
إثر ذلك في 17 يوليو، قال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي إن بايدن أعرب، مرة أخرى، عن قلقه لنتنياهو بشأن خطته لإصلاح القضاء – كما فعل عندما تحدثا آخر مرة في وقت سابق من هذا العام – وحث على تحقيق «أوسع إجماع ممكن» بشأن التشريع الذي دفع به نتنياهو وائتلافه المتشدد. ولم يُجدِ ذلك! رغم استمرار موجة الاحتجاجات والتظاهرات واتّساعها، لم يتراجع نتنياهو، ولم يكن قادراً على ذلك كما بدا واضحاً، وأقرّ الكنيست بأغلبيته ومتطرفيه في يوليو 2023، قانونا لإلغاء قدرة المحكمة العليا على مراجعة تصرفات الحكومة على أسس المعقولية. واستمرّت حركة الاحتجاج الواسعة تلك، حتى قاطعها «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر، ثم حرب نتنياهو على غزّة في اليوم التالي! ورغم ذلك حدث أن المحكمة العليا ألغت قرار الكنيست المذكور في 1 يناير من هذا العام بدورها.. أُطلِق على تلك الموجة اسم «احتجاجات الإصلاح القضائي».
كانت الحرب في خلفية موجة الاحتجاجات الثالثة في هذا العام، التي طالبت بوقف إطلاق النار عملياً، وباستقالة نتنياهو وحكومته، رغم كونها قد استمدّت شعلتها من مطلب تحرير رهائن عملية «طوفان الأقصى»، عن طريق التفاوض مع حماس بوساطة الأمريكيين والقطريين والمصريين. ورد في تقرير لصحيفة «لوموند» في الثامن عشر من سبتمبر، أنه عندما ظهر وجه «عناة أنغريست» على الشاشات العملاقة التي أقيمت وسط تل أبيب – دائماً تل أبيب، المدينة- سرى ضجيج واسع بين الحشد الكبير، الذي ضمّ ضمنه ومعه تجمعاً نظمّه منتدى الرهائن والعائلات المفقودة. في مساء يوم السبت الرابع عشر من سبتمبر، امتلأت شوارع وسط المدينة بمئة ألف شخص للمشاركة في المظاهرة الأسبوعية التي تقام في نهاية السبت للمطالبة بإطلاق سراح الرهائن المحتجزين في غزة. وعلى مدى أحد عشر شهراً حتى الآن، كانت المظاهرة تقام على بعد مئات الأمتار فقط من احتجاج آخر يطالب باستقالة الحكومة. وقد نجح التجمع الحاشد الذي أقيم في ذلك المساء، في توحيد القضيتين. ثمّ وجّهت أنغريست كلامها مباشرة إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، فسألته عن خطته لتأمين إطلاق سراح الرهائن. كما تساءلت عن دور بن غفير وسموتريتش، الوزيرين من أقصى اليمين اللذين لم يملّا من تكرار القول إنهما يعارضان ويعرقلان أي اتفاق لتبادل الرهائن والسجناء الفلسطينيين ما دامت حماس قائمة على قدميها، لأن هذا يعني في نظرهما الاستسلام. وصفتهما أنغريست بأنهما «مجنونان»، وأطلقت الحشود صيحات الاستهجان ضدهما، في أجواء متوتّرة تحت تأثير الإعلان منذ 31 أغسطس عن إعدام ستة رهائن داخل نفق جنوب غزة. هل كانت تهدف حماس إلى تحريض الإسرائيليين على التظاهر للضغط على الحكومة وإجبارها على التراجع؟ ليتها كانت كذلك… ولعلّها، بتمسّكها بالرهائن المدنيين، لا ترغب بشحذ فؤوس التشدّد والتطرف على الجانبين!
ليس هذا موضوع هذا المقال على أية حال، بل هو النظر في موضوع التظاهر الإسرائيلي وتموضعه بالنسبة إلى الإسرائيليين والفلسطينيين أو العرب عموماً. فالموجة الأولى 2011، كانت في أحد وجوهها صدى لثورات الربيع العربي قبل تراجع حالتها، واعتمدت مثلها على وسائل التواصل الاجتماعي، وكان فيها من المضامين المنفتحة/ السلمية في الجوهر الكثير… كانت احتفالات في تل أبيب، تشبه الاحتفالات البهيجة تحت ظلال الدماء والسياط في ميدان التحرير في القاهرة والخالدية في حمص. لقد أكملت الموجة الثانية سابقتها بانتقالها من مضامين العدالة الاجتماعية إلى التمسّك بحكم القانون وسيادته، من خلال فصل السلطات والحفاظ على صلاحيات المحكمة العليا، وكانت الثالثة معادية للتطرّف بشكليه المعتدل والمتشدّد إلى حدّ العنصرية الفاقعة الإرهابية، ضاغطة من أجل وقف إطلاق النار على ظهر مسألة الرهائن. وجاءت تلك الظواهر في أجواء جدالات في كلّ الجهات تطرح مصائر السلم والحرب في العمق للمرة الأولى، مع مشاهد التدهور المتسارع إلى الهاوية في المنطقة، ومؤشّرات التطبيع الغالبة عليها مع اتفاقيات أبراهام ومن دونها، وانكشاف السياسة الإيرانية وأخطارها الجنونية، الذي أقحم المقارنة بين الخطرين الإسرائيلي والإيراني عنوة في عقول النخب المشرقية والخليجية على الأقل. في مسائل تحديث دول المنطقة، وحلّ الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، وبعد الإعصار الحالي الذي لم نعرف نتائجه بعد؛ ألم يكن ممكناً – ولا يزال- النظر في المشهد من» خارج الصندوق» فعلياً والخروج المتأنّي من التابوهات، وإدراك أنه ربّما كانت موجات التظاهرات الإسرائيلية المدينية، الزراعية أو الحديثة لا الرعوية، بل ربّما المواطنية لا المستوطِنية، أقرب إلى التكامل نسبياً مع الطموحات الفلسطينية والمشرقية، ممّا تفعل أيديولوجيات وسياسات وبنى أنظمتنا وميليشياتنا التي تُفتّتُ دولنا ولا تتراجع؟ تساؤل فرضته الحيرة والخيبة والتشرّد! هل يمكن أن يرعوي نتنياهو عند حدٍّ معين؟ لا أظنّ ذلك سوف يحدث، لو بقي الأمر محصوراً بإرادته ومن حوله!
كاتب سوري