يستعيد الكتاب حواراً أُجري في الجزائر عام 1989
في عام 1989، أجرى كلٌّ من المناضل المقدسي شريف الحسيني (1938 – 2011)، والقيادية في “الجبهة الشعبية” حكمت صالح نصّار (1935 – 2022)، المعروفة باسمها الحركي “سائدة الأسمر”، حواراً في الجزائر مع الأمين العام لـ”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” جورج حبش (1926 – 2008). لكنّ الحوار لم يرَ النور إلّا مؤخَراً، حين استخرجه الباحث والصحافي صقر أبو فخر من أوراقه الخاصّة واشتغل على تحريره لغوياً وأسلوبياً، وعلى وضع هوامشه الإيضاحية والتفسيرية، في كتاب صدر عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” بالدوحة تحت عنوان “البدايات والرفاق والمصائر: حوار مع جورج حبش”.
يُقدّم الحوار جولة في تجربة حبش ورفاقه الأوائل الذين أسّسوا معاً “حركة القوميّين العرب”، ثمّ “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، وهو يدور، في جزء كبير منه، حول وديع حدّاد وشخصيته وأدواره وخلافه مع “الجبهة الشعبية” ومع حبش بالتحديد، ويتضمّن تفصيلات جديدة عن البدايات التأسيسية لـ”حركة القوميّين العرب”، بما في ذلك الصلة الواهية بـ”كتائب الفداء العربي”، وعن الرفاق الأوائل؛ أمثال هاني الهندي، ووديع حدّاد، وأحمد الخطيب، وصالح شبل، وحامد الجبوري، ومحسن إبراهيم وأحمد اليماني. وهؤلاء جميعاً رحلوا عن عالمنا.
يرصد علاقة جورج حبش بوديع حدّاد وشخصيات وطنية فلسطينية أُخرى
يحتوي الحوار، الصادر في مئتين وثماني صفحات، معلومات عن مرحلة النضال السياسي والعسكري في الأردن وسورية ولبنان، ولا سيما “العمليات الخاصّة” (خطف الطائرات) التي برع وديع حدّاد في التخطيط لها وتنفيذها مع عدد من الشبّان؛ أمثال كارلوس، وكمال خير بك، وفؤاد عوض، وباسل كبيسي، وفؤاد الشمالي، وأنيس النقاش، وليلى خالد، وأمينة دحبور، وماهر اليماني، وكوزو أوكاموتو، وفوساكو شيغونوبو، وويلفريد بوزي وآخرين.
جورج حبش برفقة سمير غوشة في “قصر الصنوبر” بالجزائر العاصمة عام 1993
جورج حبش برفقة سمير غوشة في “قصر الصنوبر” بالجزائر العاصمة عام 1993 (أرشيف المتحف الفلسطيني)
كما يعرّج على الانشقاقات التي خلخلت “الجبهة الشعبية” بين 1968 و1972؛ مثل انشقاق الجبهة الشعبية – القيادة العامّة (أحمد جبريل)، ومعها مجموعة أحمد زعرور (منظّمة فلسطين العربية)، ثمّ “الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين” (نايف حواتمة)، و”الجبهة الثورية لتحرير فلسطين” (أحمد فرحان/ أبو شهاب). وفي هذه الوثيقة التاريخية نعثر على جوانب لافتة من شخصية الرئيس جمال عبد الناصر، وعلى معلومات مفصّلة عن عملية تخليص جورج حبش الملقّب بـ”حكيم الثورة” من “سجن الشيخ حسن” في دمشق عام 1968، وأسماء المشاركين فيها، بالإضافة إلى مراجعات فكرية وسياسية تتعلّق بالماركسية وخطف الطائرات وتأسيس “حزب العمل العربي الاشتراكي” ومجموعة “أبطال العودة” والعلاقة مع حركة “فتح” و”منظّمة التحرير الفلسطينية”.
يُشار إلى أنّ “العربي الجديد” كانت قد نشرت، منذ مطلع الشهر الجاري، سبع حلقات من الكتاب، جاءت عناوينها كالآتي: “اللقاء الأوّل مع وديع حدّاد والبدايات الصعبة”، و”هكذا تأسّست حركة القوميّين العرب”، و”وديع حدّاد الخجول في المرحلة الأردنية”، و”هربت من السجن في دمشق إلى منزل وديع حدّاد في بيروت”، و”مقدّمات الانشقاق والطلاق في الجبهة الشعبية”، و”أيلول في الأردن والخلاف على العمليات الخارجية”، و”انفصال وديع حدّاد عن الجبهة الشعبية”.
يصف المقرّي التلمساني، في كتابه “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب”، احتفاء أهل الأندلس بقدوم أبي علي القالي إلى قرطبة، قائلاً: “وفد على الأندلس أيام الناصر أمير المؤمنين عبد الرحمن، فأمرَ ابنهُ الحكم، وكان بتصرّف من أمر أبيه كالوزير، عاملهم ابن رَمَاحِس، أن يجيء مع أبي علي إلى قرطبة، ويتلقّاه في وفد من وجوه رعيّته، ينتخبهم من بياض أهل الكورة تكرمةً لأبي علي، ففعل. وسار معه نحو قرطبة موكبٌ نبيل، فكانوا يتذكّرون الأدب في طريقهم ويتناشدون الأشعار”.
بهذه المقدّمة، يستهلّ الباحث والمترجم والمستعرب الإسباني سلفادور بينيا محاضرة “أبو علي القالي: الأديب الذي وفد من الشرق”، التي ألقاها في “البيت العربي” بقرطبة، الثلاثاء الماضي، ضمن سلسلة محاضرات “سير قرطبية”، التي تتناول حياة شخصيات أدبية وتاريخية وسياسية تركت أثرها في قرطبة الأموية، بهدف التعريف بإسهاماتها المعرفية أو الفكرية أو السياسية.
خُصّصت المحاضرة للمؤلّف والأديب والعالِم العربي المسلم أبي علي إسماعيل بن القاسم البغدادي القالي، الذي يُخبرنا سلفادور بينيا أنّه وُلد في ملازغرد بديار بكر عام 893م، ووفد إلى بغداد عام 914م، في صحبة قوم من قرية قالي قلا؛ بلد من أعمال أرمينيا (تركيا الآن)، ومن هنا كانت نسبته “القالي”. أمّا “البغدادي”، فكانت لطول مقامه في بغداد.
حمل نقاشات اللغة ومستجداتها من بغداد إلى الأندلس
وبعد التعريف بمولده ونشأته وسبب تسميته وحياته العلمية وشيوخه ونبوغه في اللغة وعلوم الأدب ومؤلّفاته؛ والتي يضع مترجم “ألف ليلة وليلة” (2017) كتابَ “الأمالي” في طليعتها (يستشهد هنا بوصف ابن حزم الكتاب بأنّه “مبارٍ لكتاب “الكامل” للمبرّد”، يتطرّق بينيا إلى لحظة استدعاء القالي من بغداد إلى الأندلس، حيث ذاع صيته، وعمّت شهرته، حيث قرّر الخليفة عبد الرحمن الناصر أن يرفع منار العلوم والفنون في الأندلس، فسمع بشهرته وكتب إليه ورغّبه في الوفود إليه لنشر علمه.
ويتتبّع بينيا مسار قدوم القالي إلى الأندلس، حيث وصل إلى جانة بألمرية في آذار/ مارس 942م، وغادر منها إلى قرطبة في السادس عشر من أيار/ مايو من العام نفسه، ومنذ ذلك الحين، ظلّ في قرطبة إلى رحيله بعد خمسة وعشرين عاماً، حيث قام بالتدريس وتأليف الكتب، وربطته علاقة وثيقة بعبد الرحمن الثالث.
ثم ينتقل سلفادور بينيا إلى طرح السؤال الآتي: ما سبب شهرة القالي في قرطبة وتقريب قصر الخلافة القرطبي له؟ ويحاول الإجابة عن السؤال، انطلاقاً من الأثر الذي تركه المهاجرون القادمون من الشرق، خصوصاً من بغداد، في الأندلس، حيث تفرّغوا لتدريس اللغة العربية، وكانوا يحملون معهم العديد من مُستجدّات اللغة العربية ونقاشاتها المحدثة في بغداد، ونشروا هذا التجديد اللغوي في الأندلس، التي كانت التيارات الأكثر تقليدية في دراسة اللغة والنصوص سائدة فيها بحسب المحاضر. هكذا قرّب قصر الخلافة في قرطبة هؤلاء الوافدين من الشرق كي يقفوا في وجه التيارات التقليدية السائدة، اعتقاداً منهم بأنّ من شأن هذه النقاشات اللغوية أن ترفع من سوية الكتابة في شتّى مجالات المعرفة، وهذا ما فعله القالي.
سلفادور بينيا
سلفادور بينيا
أمّا السبب الثاني، وفقاً لأستاذ الترجمة في “جامعة مالقة”، فهو قيام القالي بمهام مراجعة الكتب المُؤلّفة في الأندلس والتدقيق في لغتها ومحاولة تفادي الأخطاء. وقد كان يتمتّع بمعرفة واسعة بالمعجم العربي والشعر القديم، إضافة إلى إحاطته بالأخبار والأحاديث التاريخية المرتبطة باللغة والأدب. وهذا ما عكسه بشكل واضح في مؤلّفاته، التي ذكر منها: “الممدود والمقصور”، و”تفسير السبع الطوال”، وكتاب “البارع”.
رحل أبو علي القالي في قرطبة سنة 976م. وكما يقول بينيا، كُتب على قبره بيتان شعريان: “صلّوا لحد قبري بالطريق وودّعوا/ فليس لمن وارى التراب حبيبُ/ ولا تدفنوني بالعراء فربّما/ بكى إن رأى قبر الغريب غريب”. لعلّ هذه المحاضرة التي تستعيد هذا الأديب الذي أسهم في تطوير اللغة العربية بالأندلس هي خير دليل على أنّ القالي لم يُدفن بالعراء، وإنما في قلوب من يعرفون قيمته وأهمّيته ويستعيدونه دائماً.