من حكايا تتشابلن المرتبطة بفنه حكاية ذلك الفيلم الذي كان حتى سنوات قليلة مضت، يعتبر أقوى أفلامه وأجملها ناهيك عن كونه فيلمه الأكثر ذاتية. فهذا الفيلم وهو “الهجمة على الذهب”، كان حتى بدايات الربع الثالث من القرن العشرين، يعتبر واحداً من العشرين فيلماً الأقوى في تاريخ الفن السابع بل صُنّف غير مرة بين الأفلام الثلاثة الأعظم. غير أنه منذ ذلك الحين راح يخبو إلى درجة أن اختفى عن معظم اللوائح بل يكاد يغيب عن العروض التلفزيونية التي تُعتبر اليوم المتحف الحقيقي لتاريخ السينما، وذلك لمصلحة أفلام أخرى له قد لا تقل عنه روعة على أي حال، لكنها لم تتفوق عليه في الماضي أبداً. ولعل في استعادتنا الحديث هنا عن هذا الفيلم، المرتبط بالحلم الأميركي يمكننا أن نجد السبب فنربط غيابه النسبي بغياب هذا الحلم، من منطلق القول المأثور: إذا عرف السبب بطل العجب
سيرة ذاتية بلا مواربة؟
إذاً، في أواسط سنوات العشرين، وفي وقت كان تشارلي تشابلن وصل إلى ذروة نجاحه كأحد أهم نجوم.السينما الاميركية، كان لا بد لذلك الفنان الاستثنائي، من أن يتوقف لحظة ليتأمل مساره. وإذا أضفنا إلى ذلك أنه كان، في حياته الشخصية، يعيش الأزمة تلو الأخرى، ولا سيما في عام 1925، إثر فضيحة علاقته مع الممثلة الشابة ليتا غراي ، التي اضطُر للزواج منها إسكاتاً لعائلتها بعد أن افتُضح أمره، ثم بدأت إجراءات الطلاق التي ستكلفه مليوني دولار، يمكننا أن نفهم كيف أن “شارلو”، وجد من المناسب تحقيق ذاك الذي سيصبح أكبر فيلم في تاريخه، وواحداً من أبرز الأفلام في تاريخ السينما العالمية: “الهجمة على الذهب”. ولعله من المفيد أن نشير إلى أن هذا الفيلم اعتُبر، دائماً، واحداً من أكثر أفلامه ذاتيةً، والفيلم الذي يرسم مسار حياته في علاقتها مع الحلم الأميركي. ذلك أن “الهجمة على الذهب” فيلم عن الحلم الأميركي، وعن الكيفية التي تعاطى بها شابلن، مع ذلك الحلم. وفي هذا المعنى لا يمكن للمرء إلا أن يلحظ التشابه التام بين مسيرة تشابلن في حياته الهوليوودية، ومسيرة شارلو في “الهجمة على الذهب”.
البائس يلعب دور الرأسمالي
في واحد من أجمل النصوص التي كُتبت عن تشارلي تشابلن، يروي الشاعر الفرنسي جان كوكتو أن شابلن أجابه ذات مساء حين سأله عن سبب حزنه الدائم قائلاً “إنني أحمل في داخلي حزن رجل تحول ذات يوم إلى ثري، لكنه يبقى حزيناً، لمجرد أنه بالغ على الشاشة في لعب دور الفقير”. وهذا الانتقال من الفقر إلى الغنى، يصوره شابلن أفضل تصوير في “الهجمة على الذهب”، بل إنه يغالي في ذلك التصوير، حين يطلب منه أن “يفضح” كذلك علاقة المرأة – أية امرأة – فالحبيبة التي يُغرَم بها في الفيلم ولا تعيره أي التفات حين يكون فقيراً مشرداً لا يزال يبحث عن الذهب، تُغرم به بل تلتصق به لاحقاً حين يعثر على الثروة ويصبح شخصاً آخر. لقد لعب الرجل، بحسب تحليل مارسيل مارتان لعبة الرأسمالية فـ”استخدم الموارد التي وفرتها له قيمته السلعية لكي يصل إلى المرأة التي يحبها” في الفيلم ولكي يضمن حريته الفردية والفنية في الحياة. وما “الهجمة على الذهب” سوى خير تعبير عن ذلك.
خرافة النجاح الفردي
حقق تشابلن فيلم “الهجمة على الذهب” في عام 1925، وكان أطول فيلم يمثله بنفسه، ويخرجه حتى ذلك الحين. إذ كان قد حقق قبله، ومن إنتاج “الفنانين المتحدين” فيلم “امرأة من باريس” لكنه لم يقم ببطولة هذا الفيلم، وجعله ميلودرامياً عامراً بالتحليل النفسي، لكن فشل “امرأة من باريس” أعاده إلى نفسه وإلى شخصية الصعلوك المشرد شارلو. وهو إذ أحس أنه حر في أن يروي على الشاشة ما يشاء، شرط أن يقوم هو بالبطولة ليجذب الجمهور، آثر أن يروي – مواربةً – قصته مع الحلم الأميركي، والحلم الأميركي في “الهجمة على الذهب” يقوم في حمى الحصول على الثروة. والثروة في الزمن الذي يقدمه الفيلم (أواخر القرن التاسع عشر) كانت الذهب نفسه الذي راح المغامرون يتدافعون للعثور عليه في الغرب البعيد (كاليفورنيا وما حولها). وهكذا تضافرت هنا مجمل الدلالات المتعلقة بالحلم الأميركي: جوهر الحلم نفسه، الثروة، الغرب البعيد، وخرافة النجاح الفردي.
العيش اعتماداً على الحيلة
وهذا كله قدمه تشابلن من خلال حكاية شارلو، المتشرد الصغير كعادته، إذ يتوجه هنا إلى ذلك الغرب مجرباً حظه، لكنه، في الطبع، لا يصل إلى الثروة إلا بعد كفاح عنيد، ضد الطبيعة القاسية، وضد الأشرار، وضد صفاته الذاتية التي تجعل منه نقيضاً للبطل المغامر. وهكذا في رحلته، وعلى عكس ما كانت الحال بالنسبة إلى الباحثين الآخرين، كان على شارلو، كالعادة، أن يعتمد على ما لديه من عقل وحيلة، لا على ما لديه من عضلات. إنه، إذاً، الحلم الأميركي وقد قلب ليناسب شارلو. والأحداث تدور في منطقة كلوندايك الموحشة الباردة، حين تطالعنا قافلة الساعين بحثاً عن الذهب، بوجوه أفرادها المكفهرة والمنهكة، وهم يتوغلون صعوداً في الجبال الجليدية وهبوطاً في الوديان. وبين هؤلاء سرعان ما نشاهد صعلوكنا الأليف، شارلو الذي سرعان ما يجد مأوى له في كوخ على سفح متجمد. وشارلو طوال تلك المرحلة من سعيه يجابه الطبيعة القاسية والجوع، ويجابه أيضاً الشرير لارسن وعصابته، لكن انضمام جيم الضخم إليه ينقذه، ولو إلى حين. ذلك أن الإثنين سرعان ما يجدان نفسيهما، أمام معضلة الجوع، وهنا يبدأ كل من الإثنين يتخيل أن صاحبه دجاجة يمكنه أكلها. وينتهي الأمر بتشابلن إلى أن يطبخ حذاءه ويأكله متلذذاً به في واحد يعتبره كثر المشهد الأقوى في مجمل السينما الشابلنية. في تلك الأثناء يلتقي شارلو بالحسناء (جورجيا هال) في ملهى المنطقة ويغرم بها، لكنها لا تعيره التفاتاً. أنها لا تأبه للمتشرد الفقير، وتتطلع بالطبع إلى “وزة” أسمن منه. صحيح أنها في لحظة تدعي الاستجابة، وتواعده في كوخه، لكنها لا تأتي بالطبع، فيعود شارلو إلى وحدته محطماً بائساً. ولكن هنا أيضاً يأتيه الإنقاذ من طريق جيم الضخم، الذي بعدما فقد ذاكرته لفترة، يستعيدها ويتذكر مكاناً فيه الثروة، ويركض الاثنان ويعثران بالفعل على الكنز.
ثروة البائس وفراؤه
وهكذا يصبح شارلو ثرياً، ونراه عائداً على ظهر السفينة وقد ازدهى بثروته والفراء الذي يلبسه. وهنا تراه جورجيا وتشعر بالندم على معاملتها السابقة له، فتندفع نحوه ويستقبلها هو مرحباً. والحقيقة أن الباحثين، في حياة تشارلي تشابلن وعمله، أجمعوا على أن “الهجمة على الذهب” إنما هو فيلم شاء شابلن من خلاله أن يصور تلك العادات الهمجية التي ترافق النقلة النوعية التي أحدثها الحلم الأميركي، لدى أفراد ومجتمعات كان يخيل إليها أنها وصلت قمة الحضارة فإذا بها تبدو كآكلي لحوم البشر. ولعل المشاهد الرائعة التي يتحول فيها الإنسان إلى دجاجة، أو يأكل فيها حذاءه، أو يرقّص قطع الخبز، تكفي للتعبير عن هذا: عن هذه الهمجية المرتبطة بحلم كان في طريقه إلى أن يتحقق. ومن هنا لم يكونوا مبالغين، أولئك الذين على غرار الناقد الفرنسي كلود بيلي رأوا أن “الهجمة على الذهب” هو “أوديسة” العصور الحديثة. أوديسة معاصرة يصبح فيها، يوليس متشرداً حافي القدمين ساخراً هازلاً كارهاً للبشر، وهو ما كانه شابلن منذ ذلك الفيلم وحتى نهاية حياته، هو الذي سيعبر عن ذلك بشكل أكثر قوة – وضراوة – في فيلمه اللاحق “مسيو فيردو”.
ثمن الفضيحة والطلاق
استغرق تصوير “الهجمة على الذهب” أربعة عشر شهراً. والفيلم كلّف نحو 650 ألف دولار، لكنه حقق أرباحاً طائلة لم تقل عن 7.5 مليون دولار، كانت حصة شابلن منها مليونين، أي المبلغ نفسه الذي اضطر إلى أن يدفعه إلى ليتا غراي، حين طلقها بعد زواجه القسري منها. وسيقول مؤرخون لاحقاً أن جزءاً من نجاح “الهجمة على الذهب” الجماهيري، يدين إلى تلك الفضيحة. قد يكون هذا صحيحاً، ولكن صحيح أيضاً أن استمرار هذا الفيلم في الحضور حتى الآن، يعود إلى قوة تعبيره، حيث عرف تشابلن كيف يصفي حسابه فيه، مع حلم راوده طويلاً، وكُشف له بالملموس عن خوائه: الحلم الأميركي.