كسرت حركة حماس في لحظة تفجر “طوفان الأقصى” بين الواقعي والخيالي وهم التحكّم والسيطرة على الشرق الأوسط. وقد أدّى الهجوم الذي أحدثته، بالفعل، إلى زعزعة الاستقرار الهش والزائف، وبشكل خطير. وبعد أن أفرزت الحرب الأوكرانية العالم إلى محورين ما بين الأميركي/ الغربي والروسي/ الصيني/ الكوري/ الإيراني/ البرازيلي (الهند ابتعدت عن المحور)، جاءت قضية 7 تشرين الأول/ أكتوبر لتنسف ما تبقى من علاقات دولية، ومعها اتفاقيات أبراهام، والنقاشات السياسية مع السعودية وانضمامها الى التحالف الجديد شريكا أساسيا مع ضمانات أمنية. كما نسفت السياسة الإسرائيلية التي كانت متجهة إلى إلغاء “أوسلو” وحلّ الدولتين وإلغاء القضية الفلسطينية.
وبعد، هل هناك من يرغب في تحقيق السلام في الشرق الأوسط؟ سؤال يتردّد بقوة، والفلسطينيون ضحايا عدوان مستديم، وحشي غير محتمل، ومواجهة ديمومة احتلال من عالم قديم مضى، لا يستطيع أن يشكل تسويغا لحرب إرهابية تشنّ يوميا على المدنيين والمستشفيات، مع موت أي جهود لحماية الأبرياء (بمن فيهم الاطفال والنساء والمسنّون والمسالمون)، أمام نيران حرب ليست من صنعهم. ما يجعل من الصعب على البيت الأبيض احتواء حرب صهيونية لا دين لها، تمعن في أعمال القتل وتهجير السكان الأصليين وإبادتهم، ومحاولة نزع تاريخ أسطورة فلسطينية لا تقهر ولا تنضب. عندما يدخل جيش مدينة يغيّرها أو تغيره. هذا في حالة الدفاع عن النفس كقضية عادلة لا يملكها الإسرائيلي في ممارسة إغراء القوة والإكراه على شعب كامل ما عاد معزولا عالميا، حين يحشر ألف مقاتل من حماس على مساحة مقتصدة/ فقيرة المسرح العالمي بالسياسة والاقتصاد والميدان معا، ويرفضون الاستسلام لطغيان قوة تعتبر نفسها الآمرة الناهية، وتكشف المعارك ضعفها على الرغم من افتخار الدولة اليهودية بالجيش الأكثر تطورا في الشرق الأوسط.
تنجح “حماس” في إعادة الأمور والتوازنات التي تحكم الصراع في المنطقة إلى مربعها الأول. هجومها جمّد التطبيع، ما قد يعني انتصارا دبلوماسيا برز في دعوة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، قادة دول المنطقة في القمّة العربية/ الإسلامية إلى تبني استراتيجية المقاومة، فالهجوم متعدّد الجوانب، والذي رحبت به إيران، أدّى إلى إعادة تقييم لمدى عميق من العلاقات بين حركة حماس وطهران، في ظل العداء الإقليمي المستمر بين إسرائيل وإيران، وعما إذا كانت “حماس” تخضع بشكل كامل لسيطرة الجمهورية الإسلامية.
ينظر العالم في ضعف وهم التحكم الأميركي على ساحة حربٍ لا تخدم مصالحه، لا في المنطقة، ولا في أرجاء مختلفة
السؤال الرئيسي ما إذا كانت الأحداث تقدم تفسيرا لكيفية تطور قدرات “حماس” لشن مثل هذا الهجوم، وخوف الغرب من أن حزب الله وجماعات أخرى تتبع الهجوم، وتفتح جبهات أخرى. ليست مسألة سهلة نقل حاملات الطائرات وبطاريات الصواريخ للمنطقة، فتجد الولايات المتحدة نفسها مضطرّة إلى ارتداء البزّة العسكرية بعد إعلان انسحابها من المنطقة. هي حرب داخل الحرب، تواجهها المجموعة الدولية مع التعديلات الكبرى الأمنية والسياسية التي أحدثتها. وبرزت في تبدّل لهجة المجتمعين في القمة السعودية، في حين تحاول الدول العربية عدم الانفعال، على الرغم من أن الرأي العام نحو مزيد من التطرّف، ويجد الزعماء العرب صعوبة في ترويج السلام بعد جرائم إسرائيل المتكرّرة وتدميرها غزة. ما يعني مزيدا من خلط الأوراق ونقطة تحوّل استراتيجية تحتاج مبادرات جذرية، وليس استراتيجيات غير واضحة في الشرق الأوسط. ولم تعد الدول الخليجية متأكدة من أن التقرب من إسرائيل يمكّنها من الحصول على برامج أمنية متطوّرة وإرضاء واشنطن، فيما الموقف التركي يكتفي إعلاميا بالهجوم على إسرائيل والغرب، وهو خطاب موجّه إلى الشعب التركي، أكثر من الرأي العام الدولي مع الاعتراض على النظام الدولي/ الأميركي، والقلق من عودة واشنطن إلى المنطقة.
توحي المعطيات السياسية والعسكرية والاجتماعية أن القادم هو الأسوأ، فتتخذ الحرب على غزّة أبعادا إقليمية ودولية مع دخول لاعبين آخرين على خط الصراع، فالخط الدبلوماسي الروسي يعطي لنفسه الدور الإيجابي من خلال مخاطبة الطرفين بحلّ دائم للصراع، في حين تتحدّث موسكو، بوضوح، عن تأييدها الفلسطينيين، وتقدم الاستفادة من مكانتها في الشرق الأوسط، تماما كما كان الحال خلال الحرب السورية، وأنها تحتفظ بنفوذ هام في المنطقة بسبب علاقاتها الجيدة مع إيران، وأنها من الأطراف الذين يتحدّثون مع الجميع. وفي ظلّ عزلتها بسبب حرب أوكرانيا، تسعى إلى الاستفادة من أجل إضعاف الجبهة الغربية، فيما الصين تقدّم نفسها حليفا للجنوب العالمي وصانعة سلام محتمل. وفي موقع أكثر تجرّؤا، في لقاء الرئيس الصيني، شي، جين بينغ، نظيره الأميركي على هامش قمة “آبيك” في سان فرانسيسكو بولاية فلوريدا، بعدما زادت حرب غزّة من مشكلات الولايات المتحدة وانقساماتها الداخلية في حربيها في أوروبا والشرق الأوسط، ولا يمكنها المضي في حرب أخرى آسيوية.
تنجح “حماس” في إعادة الأمور والتوازنات التي تحكم الصراع في المنطقة إلى مربّعها الأول
لا أحد يدري نهاية التصعيد الذي وصل إلى مراحل متقدّمة مرتبطة بطول الحرب والموقف الإسرائيلي من حلّ الدولتين، وما بعد الحرب لجهة نطاق الالتزامات التي هي من واجبات النظام الحقوقي الدولي والمبادئ الإنسانية تجاه شعب فلسطيني يتمسّك بقرارات الشرعيّة الدولية (131 قرارا، وإدانة من الأمم المتحدة، تندّد بالكيان الإسرائيلي المحتل، وهو غير آبه بها). يتجنّب كثيرون التحدث عن بعد الحرب الدينية وأخطارها، وأفرقاء عديدون يملكون هذا الحشد من التعبئة لـ”صوملة” شتى أنحاء المنطقة، فيما يتجاوز فلسطين وقضيتها العادلة، وفي ملاقاة اليمين الديني المتطرّف في إسرائيل الذي يقرأ في كتاب “أشعيا” لتسويق القتل الجماعي للفلسطينيين في مسار يشي باضطرابات في كل أنحاء العالم، جرّاء خليط من السياسات والأيديولوجيات ليست في عصر محدد.
هل تراجع الولايات المتحدة دورها في المنطقة، وفي جملة الوسائل التي تستخدمها لتأمين مصالحها، وحول الحكمة من دعم إسرائيل، وجعلها عرضة لسيل من الانتقادات الداخلية والخارجية. في المقابل، ليس من المنتظر إعادة تركيب السياسة الخارجية الأوروبية بشأن المادة الاستراتيجية مع واشنطن تجاه قضية الشرق الأوسط وقضيتي روسيا والصين، ومن نوع تأييدها الحاسم لإسرائيل بوجه “حماس”، مع الاعتراف بعدم القدرة على التوصل إلى حلول للتغيير.
ينظر العالم إلى ضعف وهم التحكم الأميركي على ساحة حربٍ لا تخدم مصالحه، لا في المنطقة، ولا في أرجاء مختلفة، فتذهب عبارة كلازوفيتز بعيدا “ليست الحرب إلا استمرارا للمساومة السياسية بطريقة أخرى”، وحيث لا يمكن توقع أي شي في حرب غير قابلة للتحكم، باهظة جدا، لا تساعد على ضمانة اختيار خطط وسياسات تكون منسجمة مع جملة مصالح أميركا وقيمها الديمقراطية في غياب البدائل السياسية الممكنة.