بيروت – منذ الاستقلال يعيش اللبنانيون في دوامة من الحروب المتكررة، لم تترك لهم ترف العيش في استقرار وأمن وأمان لفترة طويلة. لبنان هذا البلد الصغير بمساحته، المتنوع بطوائفه وثقافاته، والواقع في بقعة جغرافية جعلته في قلب الاشتباكات الإقليمية المعقدة، كان دائما ساحة مفتوحة لصراعات الآخرين على أرضه. فبين حرب أهلية دامت خمسة عشر عامًا مزقت نسيجه الاجتماعي، واعتداءات إسرائيلية متكررة دمرت بنيته التحتية، وزادت من حالة التوتر الإقليمي، وحروب سياسية داخلية قسّمت شعبه بين ولاءات متعددة، ظل لبنان عالقًا في حلقة من النزاعات لم تهدأ يومًا بشكل كامل.

ومع كل أزمة جديدة تعيشها البلاد، تتعمق معها أزمة الهوية الوطنية، وتتضاعف مشاعر الانقسام، وتتراجع ثقة المواطن في مؤسسات الدولة التي باتت، في نظر كثيرين، عاجزة عن حماية مصالحهم أو الدفاع عن سيادة الوطن. تُضاف إلى ذلك التدخلات الخارجية، التي جعلت من لبنان ساحة لتصفية الحسابات، حيث يتأثر أمنه واقتصاده واستقراره الداخلي تبعًا لمصالح وأجندات هذه الأطراف.

 

السلم الذي كان يعيشه لبنان خلال الفترة الماضية، كان سلما مصطنعا، لأن الحزب الذي صادر قرار الدولة، كان الطرف الأقوى عسكريا

وفي حين يكافح اللبنانيون في السنوات الأخيرة للبقاء في ظل ظروف اقتصادية صعبة، وبنية سياسية هشة، وجدوا أنفسهم مجددا رهينة لصراع إقليمي جديد، أدخل لبنان في حرب مدمّرة، لا أفق واضحا حتى الآن عن كيفية انتهائها، والأثمان التي ستدفع من دماء ودمار وخراب، والمزيد من التشرذم الداخلي ربما يصل إلى حد النزاع الداخلي.

وسط هذه الحرب التي دخلت شهرها الثاني، بدأ ناقوس خطر الفتنة الداخلية يدق، خصوصا مع ضعف استجابة الدولة اللبنانية ومؤسساتها لاستقبال حوالي مليون و200 ألف نازح، فروا من قراهم ومدنهم منذ بدء الحرب. فقد شكل النزوح الجماعي تحت وطأة الضربات الإسرائيلية “اختبارا للتوازن الطائفي الهش” في لبنان، وفق “واشنطن بوست”، حيث تسبب القصف الإسرائيلي في هدم مبان بأكملها يقيم فيها نازحون في مناطق مسيحية، وذلك لاستهداف أفراد من “حزب الله”، كما حدث في الشمال اللبناني.

بعض الممارسات التي قام بها نازحون في عدد من المناطق اللبنانية، كاحتلال أملاك خاصة بقوة السلاح، وتحديدا في مدينة بيروت، إضافة إلى وجود عناصر من “حزب الله” في مناطق سكنية لا تنتمي إلى بيئة “حزب الله” ولا تؤيد سياسته، دفعت الكثير من اللبنانيين إلى رفع الصوت، والمطالبة بوضع حد لهذه الممارسات، إلى حد المطالبة بالتدقيق في هوية النازحين للتأكد إذا كان بينهم عناصر ينتمون لـ”الحزب”، خوفا من استهداف مناطقهم، الأمر الذي أدّى في بعض الأماكن إلى ارتفاع منسوب الاحتقان الداخلي.

أيضا كان لافتا التحذير الفرنسي قبل أقل من أسبوعين من أن “حربا أهلية وشيكة” في لبنان، عبر وزير الجيوش الفرنسي سيباستيان لوكورنو، الذي قال: “إنّ التوصل إلى وقف لإطلاق النار في لبنان يمثل ضرورة لأمننا الجماعي”، محذراً من انهيار هذا البلد، ومن خطر اندلاع “حرب أهلية وشيكة” فيه. وقال في تصريح لقناة “إل سي إي” التلفزيونية: “إن موقفنا، في الوقت الراهن، قائم وبخاصة على التخوف من حرب أهلية وشيكة في لبنان”، وفق “فرانس برس”.

“سلم أهلي” مصطنع
وفي هذا السياق يرى وسام اللحام، الأستاذ المحاضر في العلوم السياسية في جامعة القديس يوسف أنّه: “من الطبيعي في أي مجتمع يعيش حربا كبيرة مثل التي نعيشها اليوم، أن تحصل احتكاكات بين شعبه، خصوصا مع قلة الموارد، والضائقة التي يعيشها الناس، بغض النظر عن طوائفهم. ودائما يكون الحل عبر حفظ الدولة لكرامات الناس، وأن لا يتعرض الأضعف للاستغلال، وفعليا هناك خطورة لما يحصل اليوم، والمشكلة الأساس هي في غياب الدولة، لأن هناك نظاما سياسيا على رأسه “حزب الله” دمر الدولة. والنازحون هم ضحايا أيضا، تم طردهم من بيوتهم، ووجدوا أنفسهم في الطرقات من دون حماية، وهم الذين كانوا يلجأون إلى حزبهم الذي كان يؤمن لهم الحماية منذ عقود، ففجأة أصبحوا دون حمايته، وهو أصلا يحتاج إلى من يحميه”.

وأضاف لـ”المجلة” “أنّ السلم الذي كان يعيشه لبنان خلال الفترة الماضية، كان سلما مصطنعا، لأن الحزب الذي صادر قرار الدولة، كان الطرف الأقوى عسكريا. نعم كان هناك نوع من السلم الأهلي يعيشه لبنان، ليس لأن هناك دولة قائمة على العدالة والمساواة، بل لأن هناك حزبا قمعيا استبداديا، لا أحد يستطيع منافسته”.

السؤال حول قدرات الحزب في تأمين رواتب تابعيه بعد نهاية الحرب، خصوصا أن أمواله بحسب ما يتداول، كانت موجودة في شقق، وتم استهدافها والقضاء على قسم كبير من تمويله

أما بالنسبة للمخاوف من نشوب حرب أهلية فقد رأى اللحام أنّ “حزب الله” حسب ما يتبين حتى الآن، أصبح أضعف، والأكيد أن الضربة الكبيرة التي تلقاها، سواء كانت على مستوى قيادته وعديده أو على مستوى مصداقيته فقد أضعفته، رغم أننا لا نعلم حتى الآن حجم خسائره، كل هذا أفقده جزءا من الهيبة، ومن الصورة التي كان يرسمها أمام اللبنانيين، بغض النظر إن كانت هذه الصورة صحيحة أم لا. وهذا العامل يجعل الآخرين يعتقدون أن ضعف هذا الفريق، سيحتم عليه أن يحاول فرض نفسه بالقوة، إن شعر بأنه سيفقد السلطة، أو سيفقد سيطرته على النظام السياسي. وهذا العامل موضوعي، ومن الممكن أن يؤدي الى احتمال نشوب حرب أهلية.

أمّا العامل الثاني فهو أنّ “حزب الله” مؤسسة متكاملة، وليس فقط جناحا عسكريا، بل هو نظام زبائني واسع، لديه مؤسسات صحية واجتماعية وكشافة ومدارس، وكل هؤلاء بحاجة إلى المال، والموظفون التابعون لمؤسساته بحاجة إلى رواتب، ومن ضمنهم طبعا المقاتلون لدى “الحزب”، والسؤال هنا حول ما هي قدرات الحزب في تأمين رواتب هؤلاء بعد نهاية الحرب، خصوصا أن أمواله بحسب ما يتداول، كانت موجودة في شقق، وتم استهدافها والقضاء على قسم كبير من تمويله، وبالتالي لم تعد لديه القدرة على دفع الرواتب، مع غياب شخصية استثنائية مثل حسن نصرالله الذي كانت لديه القدرة على لجم أي تحرك داخلي، فهناك خطر بأن تتحول عناصر “الحزب” الذي أصبح غير منضبط، ويبحث عن المال إلى ميليشيا تصطدم بالداخل، وهذا ما قد ينذر بـ”حرب أهلية”.

الطوائف في لبنان لديها غالباً قدرات عسكرية متفاوتة، وأيضاً قدرة على التعبئة للعنف في صفوفها

ويتابع: “عندما يضعف (حزب الله) ويخسر مصداقيته أمام جمهوره، سيلجأ إلى شدّ العصب لتحصين جماعته الطائفية، والحفاظ على وجوده عبر إلقاء اللوم بالهزيمة التي يتعرض لها على باقي اللبنانيين، عبر تخوينهم، والحديث عن مؤامرة دولية، وبالتالي أي هزيمة سيتعرض لها الحزب ستدفعه لتوجيه انتقامه للداخل، الأمر الذي سيسمح له بأن يعود ويسيطر على قاعدته التي تفلتت منه أو تلومه، أو التي لم تعد تصدّق البروباغندا التي كان دائما يطلقها بأنه الأقوى، ويستطيع ردع إسرائيل، ولكن ما تبين أنّ كل هذا غير صحيح… أيضا لا يمكن أن نغض النظر عن أن (حزب الله) لا يزال يمتلك أكبر إمكانيات عسكرية، فالحرب الأهلية لا تحتاج إلى صواريخ، وهو حزب منظم، مسلح، ومدرب، حتى لو أضعفته هذه الحرب، فهو لا يزال الأقوى، وكلها عوامل تشجع بأن نشهد سجالات في البلد، تكاد تأخذ شكل الحرب الأهلية، لذلك على خصوم (حزب الله) أن يدركوا بأن أكبر خدمة للحزب بعد وصوله لهذه المرحلة من الضعف، هو التحريض عليه بشكل يؤدي إلى تخويف الطائفة الشيعية، فالحزب شئنا أم أبينا كان يسيطر على قرار هذه الطائفة، لذلك يجب تغليب الحكمة في هذه المرحلة”.

لكن هل هناك قرار دولي بالتخلي عن لبنان، وتركه للذهاب مرة جديدة إلى حرب أهلية، يقول اللحام: “بحسب ما يتبين فإن الولايات المتحدة لا تريد حربا أهلية في لبنان، وذلك من خلال دعمها للجيش اللبناني، وتركيزها على تسليح الجيش، وإعطائه إمكانيات مالية، لكي يستطيع الاستمرار بدفع الرواتب، وتحسينها، وهذا يعني أن الولايات المتحدة تريد الحفاظ على الأمن في لبنان، لأنها لا تريد ساحة صراع جديدة في المنطقة، ولا أزمة لاجئين ونازحين جديدة في أوروبا، فهم لا يزالون يعولون ويستثمرون في الجيش اللبناني، وهذا يؤدي إلى استنتاج أن هناك عدم تخل عن لبنان”.

فوضى وعنف سياسي
من جهة أخرى يرى نائب مديرة مركز شؤون الأبحاث في مركز “مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط” في بيروت الدكتور مهند الحاج علي في حديث لـ”المجلة” أنّ المخاوف تكمن في “الفوضى والعنف السياسي، لا الصراع التقليدي. فالطوائف في لبنان لديها غالباً قدرات عسكرية متفاوتة، وأيضاً قدرة على التعبئة للعنف في صفوفها. كان واضحاً هذا في حوادث السابع من مايو/أيار 2008”. ولكن الأساسي برأيه “هو أن وسائل الإعلام والشخصيات المرتبطة بـ”حزب الله” وخطابه، رفعت من وتيرة التهديد لخصومه السياسيين وتخوينهم، وبشكل لم نر مثيلاً له منذ الحرب الماضية”.

وقال: “يُضاف إلى ذلك معطيان آخران، الأول هو العنف الإسرائيلي المبرمج لإثارة النعرات الداخلية، من خلال استهداف المناطق المختلطة والنازحين في مناطق غير شيعية. ولا معنى عسكرياً أو أمنيا لهذه الاستهدافات سوى إثارة النعرات الداخلية… الثاني هو شبه إجماع سياسي لبناني على ضرورة وضع خريطة طريق بعد هذه الحرب، عمادها احتكار الدولة للسلاح، وهذا من شأنه رفع منسوب الحساسية مع “حزب الله” وإيران من ورائه كذلك”.

وتابع: “صحيح أن إسرائيل تمكنت من إضعاف (حزب الله) وقدراته الاستراتيجية، لكن التنظيم ما زال يمتلك قدرات عسكرية وأمنية وتعبوية، بإمكانه استخدامها لمنع خصومه من تحويل خسارته الميدانية إلى مكاسب سياسية”.

مع ذلك، أعتقد أنه من المحتمل أن تتصاعد التوترات بين الطوائف بشكل تلقائي، بسبب نزوح عدد كبير من الناس. وأي توترات وحوادث تلقائية ستؤدي بطبيعة الحال إلى انقسام سياسي”

أمّا الباحث والمحلل السياسي الأميركي سام هيلر، فيقول في حديث لـ”المجلة”: “لا أعتقد أن لبنان يتجه نحو حرب أهلية، على الأقل ليس في الوقت القريب. وحتى مع الأضرار التي ألحقتها إسرائيل بـ(حزب الله)، ما زال الحزب يتمتع بتفوق عسكري واضح داخل لبنان. ولا أعتقد أن أي حزب لبناني آخر سيكون أحمق بما يكفي ليواجه (حزب الله) بشكل مباشر. مع ذلك، أعتقد أنه من المحتمل أن تتصاعد التوترات بين الطوائف بشكل تلقائي، بسبب نزوح عدد كبير من الناس. وأي توترات وحوادث تلقائية ستؤدي بطبيعة الحال إلى انقسام سياسي”.

ولكن إلى أي مدى يشبه لبنان الحالي، لبنان 1975 تاريخ انطلاق الشرارة الأولى لحرب أهلية دامت 15 عاما، يؤكد هيلر: “إن هناك بعض الديناميكيات الحالية في لبنان التي توازي الظروف التي أدت إلى حرب أهلية سابقا في لبنان، لكن هناك أيضًا اختلافات جوهرية– في عدم التوازن العسكري للقوى اللبنانية، أو حقيقة أن (حزب الله) جزء عضوي من النسيج اللبناني، وهذا ما لم يكن متوفرا لدى منظمة التحرير الفلسطينية”.

وختم هيلر: “يجب أن لا ننسى أيضًا، أن إسرائيل تشن حربًا على لبنان حاليًا. أعتقد أن هناك حدودًا لمدى تصاعد التوترات بين الأطراف اللبنانية، والنظر إلى أي مدى هناك رغبة لدى الأحزاب السياسية اللبنانية لمواجهة بعضها البعض، طالما أن لبنان يتعرض لهجوم من عدو خارجي”.

ممارسات غير مطمئنة
من جهتها ترى الكاتبة والأستاذة في الجامعة اللبنانية الدكتورة منى فياض في حديث لـ”المجلة” أنّ “هناك دلائل خطيرة إن لم تعالج، لن تكون لمصلحة السلم الأهلي، يكفي أن هناك أشخاصا تركوا منازلهم، ويبدو أن عودتهم ليست بالمدى المنظور، تركوا مناطقهم التي تتعرض للقصف، وذهبوا إلى مناطق من نسيج طائفي مختلف، وإلى أماكن غير مهيأة لاستقبال النازحين، بسبب الاهتراء والتفكك لدى الدولة اللبنانية، التي أوصلتنا إلى مكان أن اللبنانيين متروكون وسط انهيار تام. وهناك سلوك غير سلمي، وبخاصة أن هناك أشخاصا لم يستوعبوا بعد أن وضعهم تغير، وهم مستمرون باتباع أسلوب الاستقواء والسلوك الميليشياوي، وهذه الممارسات غير مطمئنة، وإن لم يعودوا بأسرع وقت إلى قراهم وبيوتهم وهذا مستبعد، فهناك خطر حقيقي”.

وتابعت: “هناك جهة قمعت اللبنانيين لسنوات، والآن هي تعيش حالة ضعف، ومن الطبيعي أن يكون هناك ردة فعل من اللبنانيين تجاه من قمعهم لسنوات، وخاصة مع تصرفات إيران المستفزة. لغة التخوين والتهديد التي مورست وتمارس تجاه اللبنانيين، من (القمصان السود) إلى (7 أيار)، و(أحداث عين الرمانة)، هذه كلها تراكمات تشكل أرضية، لردة فعل من الجهة التي لا تؤيد الحزب”.

بين القلق من تكرار الماضي والأمل في تجنب أخطائه، يعيش اللبنانيون اليوم مخاوف حقيقية من ارتفاع منسوب الاحتقان الداخلي

وختمت: “إلى الآن كان لدينا مناعة ضد الحرب الأهلية، واللبنانيون برهنوا دائما ومرارا على أنهم تعلموا من الحرب الأهلية، ولكن هناك أطرافا إلى الآن لم تتعلم، لذلك هم مستمرون بالحرب، ولديهم خوف من أن يستضعفهم الطرف الآخر، ومن ثم يفقدوا سيطرتهم وقبضتهم على الدولة”.

إذن، بين القلق من تكرار الماضي والأمل في تجنب أخطائه، يعيش اللبنانيون اليوم مخاوف حقيقية من ارتفاع منسوب الاحتقان الداخلي، وسط حرب مدمرة تعصف بجنوب لبنان وشرقه، وضاحية بيروت الجنوبية. خصوصا أن لبنان تنتظره استحقاقات مصيرية في “اليوم التالي” للحرب، وأهمها تطبيق القرار 1701، إضافة إلى انتخاب رئيس للجمهورية بعد تعطيل رعاه “حزب الله” لعامين. بالإضافة إلى تمسك بعض الأحزاب اللبنانية المناهضة لـ”حزب الله” بتطبيق القرار 1559 لسحب سلاحه وتسليمه إلى الجيش اللبناني، وهو القرار الذي تنقسم حوله الأحزاب السياسية، بين مؤيد ومعارض وحذر، مثل الرئيس السابق لـ”الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط، فهل الإصرار على تنفيذه سيأخذ البلاد إلى موجة جديدة من العنف والانقسام العمودي؟ أم إن “الانهيار والهزيمة” ستجبران “الحزب” على العودة إلى كنف الدولة كحزب سياسي مثل بقية الأحزاب في لبنان؟