تتباين آراء السياسيين في تركيا ومواقفهم تجاه الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا لدرجة اختلاف وصفها وتسميتها بحسب الهوية التي يرون تمثيلها لها، فمع قناعة البعض بالأوصاف والرواية الرسمية للحكومة، يبدو إعجاب سياسيين كرد في الداخل التركي للمشروع الناشئ على حدودهم الجنوبية لدرجة الفخر.
وترفض الحكومة التركية التي يقودها حزب العدالة والتنمية تعريف الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا منذ تأسيسها بإدارة للمكونات المحلية، فهي وفق الإعلام الرسمي التركي إدارة لحزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا.
وبين الموقفين نقاط التقاء في حلٍّ ما، قد يكون قريباً أو بعيداً بحسب استجابة أطراف الصراعات في سوريا وتركيا للحوارات التي قد تنهي عقوداً من الحروب والمآسي، فما الظروف والمسارات التي قد تدفع تركيا يوماً لبدء حوار مع قوات سوريا الديمقراطية؟ وما السيناريوهات الأخرى التي قد تكون مجدية لوقف مخاوفها على حدودها وأمنها القومي؟
البرلماني السابق لحزب العدالة والتنمية، محمد متينر، والرئيس المشارك لبلدية ماردين الكبرى، أحمد ترك، أجابا عن أسئلة DeFacto بهذا الخصوص.
“مخطط أميركي ضد تركيا“
يرى البرلماني السابق لحزب العدالة والتنمية، محمد متينر، وهو كردي الأصل وينحدر من مدينة أديامان/ سمسور، أن الإدارة الناشئة في شمال وشرق سوريا تحت علم التحالف الدولي لمحاربة “داعش”، هي “بقيادة حزب العمال الكردستاني الذي يسعى لإنشاء إدارة مماثلة في تركيا بقوة السلاح”.
ويتهم الإدارة الذاتية بالسير وفق الأجندة الأميركية التي تخدم مصلحة إسرائيل، ويستنتج من ذلك أنه لن يكون من الممكن التقدم في أي حوار مع إدارة يقودها حزب العمال الكردستاني الذي يحارب تركيا منذ سنوات.
ويدعم التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم “داعش” قوات سوريا الديمقراطية المكونة من مقاتلين كرد وعرب ومسيحيين، بينها وحدات حماية الشعب، وهو ما يغضب تركيا حليفتها في الناتو.
يقول متينر لــ DeFacto إن التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية “يستخدم حزب العمال الكردستاني كتهديد عسكري ضد تركيا لفرض مخططاته، ثم يطرح نفسه كوسيط لإزالة الخطر نفسه. هكذا وساطات أو مسارات للتفاوض غير ممكنة التنفيذ”.
ويضيف أن مخطط التحالف الدولي هو قبول تركيا “بإدارة حزب العمال الكردستاني” مقابل إعلان الأخير إلقاء السلاح، “والهدف هو دولة للعمال الكردستاني شمالي سوريا واستخدامها لخدمة التحالف الدولي وإسرائيل”.
أما الهدف في الداخل التركي، بحسب قراءة البرلماني السابق، هو جعل حزب العمال الكردستاني تنظيماً لا يطلق النار نحو تركيا، لكن مع تحويله إلى قوة فاعلة وقوية في الميدان السياسي، “تركيا لن تقع في هذه المصيدة، لذلك اللقاءات والحوارات غير ممكنة بهذا الشكل”.
وشنت تركيا عمليتين عسكريتين على مناطق الإدارة الذاتية بمشاركة الجيش الوطني المعارض لحكومة دمشق والموالي للحكومة التركية، سيطرت في الأولى عام 2018 على منطقة عفرين شمال غربي البلاد، وفي الثانية عام 2019 على مدينتي سري كانيه/ رأس العين وتل أبيض وريفيهما.
واستمرت تركيا بعدها في شن الغارات الجوية بالطائرات المسيّرة والحربية والقصف المدفعي على مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية.
“كلهم حزب العمال الكردستاني“
ويرفض متينر تفسير الموقف التركي بمعاداة الكرد والحكم الكردي، “بل هو موقف شرعي أمام تنظيم إرهابي ومعادي، والقوى التي تقف خلفه تريد تقسيم وطننا”.
ويشرح ذلك: “تركيا أردوغان وحزبنا العدالة والتنمية، ليس عندها مشكلة مع كرد سوريا، والكرد عموماً، لكن المشكلة مع حزب العمال الكردستاني والقوى الإمبريالية التي تقف خلفه وجلبته من خارج سوريا”.
يقول إن حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) في سوريا تابع لحزب العمال الكردستاني، كما حال حزب الشعوب الديمقراطي (DEM) في تركيا، ووحدات حماية الشعب (YPG) هي الجناح العسكري له، “وحاميهم جميعاً هو التحالف الدولي لمحاربة داعش”.
ولا يسمّي متينر أي طرف كردي في سوريا تتفق معه تركيا، لكنه يكرر مثال إقليم كردستان العراق، ويقول إن الولايات المتحدة استخدمت حزب العمال الكردستاني ضد “إدارة البارزاني” هناك.
ويرى أن “حزب العمال الكردستاني يحاول بسلاحه وبدعم من التحالف الدولي أن يصادر حرية الإرادة للكرد في الدول الثلاث، ثم إنشاء حكومة فاشية دكتاتورية تدّعي أنها تمثل إرادة الكرد”.
ويخلص لنتيجة أن “حزب العمال الكردستاني ليس مشكلة خاصة بالأتراك وتركيا، بل هو مشكلة بالنسبة للكرد أيضاً في سوريا والعراق وتركيا”.
واعتادت تركيا خلال السنوات الماضية بالرد على أي هجوم ينفذه حزب العمال الكردستاني على قواتها ومراكزها في الداخل التركي بشن هجمات جوية ومدفعية داخل إقليم كردستان العراق وفي منطقة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا.
وأسفر آخر تصعيد تركي للهجمات، ما بين 23 و25 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، عن مقتل وإصابة 62 مدنياً و18 من العسكريين، بالإضافة لتدمير المزيد من البنى التحتية خلال الضربات التي قالت إنها رد على هجوم لحزب العمال الكردستاني في أنقرة.
“لا مشكلة مع كرد سوريا“
يقول متينر إنه ما من مشكلة لتركيا مع الكرد السوريين، “هم إخوتنا، نرى مكتسباتهم مكسباً لنا، ونعرف إدارتهم كإدارة لنا، ونسعى لتقوية علاقات الصداقة معهم، كما فعلنا مع إدارة كرد العراق”.
ويضيف أنه “إذا ما تمت تصفية حزب العمال الكردستاني وسلاحه، فلن تخلق تركيا مشكلة لكرد سوريا”.
ويزيد أنه إذا تمت صياغة دستور جديد في سوريا، وتضمّن إدارات محلية بينها إدارة ذاتية للكرد كالتي في العراق، “بالطبع ستقبل تركيا ذلك، ولن يكون لديها مشكلة مع هذه الإدارة”.
ويستدرك متينر: “وإذا استمر حزب العمال الكردستاني بقواه المسلحة بالتواجد في سوريا، لن تقبل تركيا الإدارة هناك حتى لو اكتسبت في المستقبل شرعية قانونية”.
لكنه يسمّي قوات سوريا الديمقراطية أيضاً بـ “قوات حزب العمال الكردستاني التي يدعمها التحالف الدولي.. أنا ككردي، أرفض مرة أخرى تعريفها كقوات كردية”.
ويرى أنه إذا أعلن حزب العمال الكردستاني إلقاء السلاح وتوجه للوسائل السياسية وعمل وفق ذلك، “حينها ستسير كل الأمور على طبيعتها. ستنتهي المشكلات ويبدأ عصر جديد تكون فيه الفائدة للجميع”.
يقول أيضاً: “إذا كان لمظلوم عبدي قوة تأثير على حزب العمال الكردستاني، يجب أن يصدر قراراً في هذا الشأن. لا يكفي أن يعلن أنه مستعد للتفاوض مع تركيا. إذا تغيّر حزب العمال الكردستاني، ستحل المشكلات وستظهر علاقات قوية بصورة طبيعية مبنية على أساس الثقة”.
ويكرر القائد العام لقسد، مظلوم عبدي، في تصريحاته أن قواته سورية وغير خاضعة لقيادة حزب العمال الكردستاني وملتزمة بعدم مهاجمة الأراضي التركية، كما يعبر عن استعداده للحوار مع كل الأطراف، بما فيها المعارضة والحكومة السورية وتركيا.
“على تركيا أن تميّز بين القوى”
وتختلف قراءة الرئيس المشارك لبلدية ماردين الكبرى، أحمد ترك عن رؤية حزب العدالة والتنمية الحاكم، إذ يرى أن المشكلة تعود إلى اتفاقية قصر شيرين بين الإمبراطوريتين العثمانية والصفوية حين تم تقسيم الجغرافيا التي يعيش فيها الكرد إلى جزأين، ثم أربعة أجزاء وفق اتفاقية سايكس بيكو بين فرنسا وبريطانيا، حيث “لم تعترف بعدها أي من إيران والعراق وسوريا وتركيا بالكرد كشعب، وتعاملت مع لغتهم وثقافتهم وتاريخهم وهويتهم وكأنها غير موجودة”.
ورغم ذكر هذه الدول مؤخراً وجود الكرد فيها، إلا أنها استمرت في حرمانهم من “الحق في العيش كشعب له هويته الخاصة بخصوص اللغة والثقافة والتعليم”.
يقول ترك لــ DeFacto: “حصل الكرد في سوريا بعد احتجاجات 2011 على فرصة لإدارة أنفسهم، “بالطبع هو حق طبيعي لكل شعب، ونستطيع رؤية أمثلة عديدة في أرجاء العالم”.
ويضيف: “لا يوجد مشروع تجزئة أو انفصال في أي من الدول التي يعيش فيها الكرد، لديهم قضية وحيدة هي الاعتراف بوجودهم والعيش وفق هويتهم”.
وبخصوص التمييز بين حزب العمال الكردستاني والكرد السوريين، يعتقد البرلماني أحمد ترك أن مواقف وسياسات الكرد تتغير في كل دولة بهدف محافظتهم على وجودهم، “والدولة التركية تعي هذه المسألة جيداً، وعليها التمييز على الأقل بين المدنيين والقوى السياسية والقوات العسكرية”.
ويضيف: “كما أن القوة العسكرية اليوم في شمال وشرق سوريا هي قوات سوريا الديمقراطية، وهي ليست حزب العمال الكردستاني، يجب رؤية هذا الفرق”.
ويرى أنه لو كان التمييز بين هذه القوى موجوداً، “لأصبح حل المشكلة أسهل بكثير”.
ولا يبدو ترك متفائلاً إزاء السيناريوهات التي تخطط لها الحكومة التركية في أنقرة، “بالنسبة لعقلية لا تقبل حتى بوجود شعب كردي، يمكن توقع الأسوأ”.
ويطالب الحكومة التركية بترك سياساتها وخططها الحالية تجاه الكرد، “وأن يكون الحل هو الأولوية لها من أجل أن يعيش الناس في سلام”.
ويعتقد ترك أن “سياسات الحرب لن تنفع أحداً. عندما ننظر لحروب العالم وخصوصاً في الشرق الأوسط نرى أن الدول والحكومات وحتى الشعوب صارت مهزومة بسبب سياسة الحرب. من ربح في الحرب هي فقط أزماتها وتداعياتها والبرجوازيات التي وصلت للسلطة”.
“الحوار ممكن دون أميركا”
يقول متينر أن تركيا تجري لقاءات مع الكرد السوريين، دون تسمية الطرف الذي يقصده، “ومن أجل التعامل معهم لا نحتاج وساطة الولايات المتحدة الأميركية”.
ويضيف: “في الحقيقة إنشاء قسد كان مقترحاً لزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، احتضنت الولايات المتحدة المشروع ودفعته للتنفيذ”.
ويلخص متينر آراءه حول الوساطة الأميركية بالقول: “هذه حقيقة المسألة، ويجب ألا يصدق أحد التحالف الدولي ولا يحلم بأوهام كاذبة”.
ويتساءل: “هل لهذه الإدارة أي أساس دستوري؟ لا! إذاً لا تقبلها تركيا أبداً. لن تقبل أن ينشأ كيان يعمل تحت راية الولايات المتحدة كإسرائيل ثانية”.
ويهاجم نظام الانتخابات في منطقة الإدارة الذاتية، “نظام الصناديق الانتخابية هناك أسوأ من العصور السابقة عندنا عندما كان الحكم بيد الحزب الواحد، حزب العمال الكردستاني يضع الصناديق ويتلاعب بالنتائج بالقوة لصالح مرشحيه، ثم يسمي النتيجة إدارة ذاتية أي حكم ذاتي”.
ويرى متينر الحل في أنه “عندما تتغير الظروف في سوريا، الشعب السوري سيعيد صياغة دستوره بنفسه، وسيقرر قانونياً كيف سيدير بلاده، ولو تم إنشاء حكم ذاتي شبيه بالذي في العراق، لن تقف تركيا ضده”.
ويكرر: “كما يتم استقبال نيجيرفان بارزاني في تركيا كرئيس شرعي لإقليمه، سيتم استقبال رئيس إدارة الكرد السوريين بالطريقة نفسها”.
“الحوار مصلحة للجميع“
يرى أحمد ترك أنه “في المكان الذي يبدأ الحوار تتقدم الحلول دائماً، نحن نؤمن بهذا وندافع عنه، لكن قبل أي شيء على تركيا القبول بوجود وشرعية قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية”.
ويعبر عن استغرابه: “ليست المقاربة صحيحة عندما ترى منطقة تضم ملايين الكرد والعرب والسريان والتركمان وغيرهم وتقبل وجودهم، ثم تغيب عن رؤيتك إدارتهم والقوات التي تحميهم”.
ويشدد ترك على أنه ما من عائق موضوعي مرتبط بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي أمام الحوار الذي هو بيد السلطات السياسية أي الحكومات، “ويجب تنحية الحسابات السياسية والاستجابة للمصالح والآمال المجتمعية. الأمر نفسه ينطبق على رؤية النظام السوري للمنطقة”.
ويؤمن أن “غياب الحوار الحقيقي مشكلة كبيرة وما يحدث منذ سنوات مثال سيء ماثل للعيان. الأزمتان الاقتصادية والسياسية والمشكلات الناتجة عنهما، يتم حلها بالسلام والديمقراطية المستدامين”.