قد لا تتغير حدود الدول القومية في يومنا هذا، ولكن تطلعات الهويات المختلفة التي تعيش داخل الدولة القومية تتغير. حيث يوجد سببان رئيسيان لهذا التغيير. السبب الأول هو أن “العولمة” تجعل حدود الدولة القومية أكثر مرونة وتقلل من قدرتها على إنتاج القيم والمعايير. أما السبب الثاني فهو أن “حالات عدم اليقين” والمخاطر الناتجة عن هذه العملية تتزايد باستمرار.
بعبارة أخرى، فإن فوضى القيم التي أفرزتها العولمة وزيادة حالات عدم اليقين والمخاطر تدفع الأفراد داخل الدولة القومية إلى التقارب مع الأشخاص الذين يشاركونهم في عناصر مثل القيم الثقافية واللغة والدين. هذا يؤدي إلى تجانس الهويات التي كانت في السابق موجودة بشكل باهت تحت مظلة الدولة القومية، وإلى تسييس هذه الهويات مع مطالب متزايدة لتحقيق المزيد من المساواة في مواجهة الهوية أو الهويات السائدة.
يسبب هذا التطور نوعاً من “الصحوة الهوياتية” ليس فقط في الدول القومية الغربية التي بُنيت على مجتمعات متجانسة والتي أصبحت غير متجانسة مع مرور الوقت بسبب الهجرات، ولكن أيضاً في الدول القومية الشرقية التي كانت غير متجانسة منذ نشأتها. يزيد هذا الوضع الجديد من تعقيد إدارة المجتمعات المعاصرة من خلال “الديمقراطية الليبرالية”، التي تفترض في هيكلها أن تكون متجانسة تتكون من أفراد يُطلق عليهم “المواطنون” وذلك لأن مطالب الهويات المختلفة التي لم يتم تلبيتها تجعل من الصعب على هذه الهويات أن تشعر بشعور مشترك كـمواطن أو كـ “نحن”.
وفي الآونة الأخيرة، تمر كل من سوريا وتركيا، اللتان تتكونان من بنية متعددة الهويات وهويات مشابهة، باضطرابات سياسية ناتجة عن المطالب الهوياتية التي ظهرت داخلهما نتيجة العملية التي حاولت توضيحها بإيجاز أعلاه.
ويطالب الكرد والعلويون والمسيحيون الذين يشكلون أقدم الهويات الموجودة في الجمهورية التركية التي تأسست قبل مئة عام، بنوع من المساواة في مواجهة الأتراك والسنة، حيث أن عدم تلبية هذه المطالب يؤدي إلى تشكيل طابع “صراعي” في السياسة الداخلية للبلاد.
أما في سوريا، فقد أدت انتفاضة الهويات المختلفة التي كانت موجودة منذ تأسيس البلاد وحتى الآن، مثل العرب السنة والكرد والتركمان والدروز والسريان، إلى ظهور مطالب جديدة ضد النظام الحاكم، ما حول السياسة الداخلية أولاً إلى صراع ومن ثم إلى حرب داخلية.
وبالتالي، إذا كان الرئيس التركي أردوغان يرسل اليوم رسائل لطلب لقاء الرئيس السوري بشار الأسد، الذي لم يتردد سابقاً في وصفه بـ”القاتل”، ويرد الرئيس السوري بشار الأسد بالقول “بالطبع سنلتقي”، فإن هذا التطور يتعلق بشكل أكثر بمشاكل السياسة الداخلية في كلا البلدين، وليس فقط بالسياسة الخارجية. فالقضايا التي ذكرتها والمتعلقة بالهويات هي التي تلعب الدور الأكبر في هذا السياق.
بمعنى أخر يمكن القول إن رسالة أردوغان التي قال فيها ” نحترم وحدة الأراضي السورية” قد تم الرد عليها من الجانب السوري برسالة مضادة مفادها “انسحاب القوات هو شرط لتحقيق اللقاء”، ثم تلاها تصريح آخر بأن “هذا ليس شرطاً، بالطبع سنلتقي”. قد يكون هناك احتمال بأن القضايا التي ستتم مناقشتها أولاً هي تلك المتعلقة بمشاكل الهوية التي تواجهها الدولتان في سياساتهما الداخلية، والتي أعتقد أنها بالنسبة للطرفين تتعلق بشكل أساسي بالقضية الكردية.
وكما أفادت الصحف، فقد اقترح مسؤول تركي إنشاء لجان مشتركة في مجالات “مكافحة الإرهاب وأمن الحدود”، بينما أكد مسؤول سوري أن الشرط الوحيد لضمان أمن الحدود هو وجود أجهزة الأمن التركية والسورية فقط على جانبي الحدود.
معنى هذه التصريحات واضح، فالشرط المسبق لتركيا التوصل إلى اتفاق مع سوريا هو تدمير (إلغاء) “الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا” التي أسسها الكرد، وضمان سيطرة القوات السورية على شمال سوريا، أي على الحدود الجنوبية لتركيا.
ومن المحتمل أن يعود سبب عبارة “نحترم حدودكم”، ولكن “علينا الالتقاء في أقرب وقت” في سياق المغازلة السياسية بين الدولتين، إلى تشكيل الكرد لإدارة ذاتية في منطقة غنية بالنفط والحبوب في سوريا، على غرار إدارة إقليم كردستان في العراق. في الواقع، تصريح أردوغان في أحد خطاباته ” لن نسمح بتكرار ما حدث في شمال العراق في شمال سوريا”, يعزز هذا الاحتمال الذي تعارضه سوريا أيضاً.
فهل حقاً سيكون الاجتماع التركي-السوري، الذي يبدو أنه سيعتمد على هذا المفهوم، كافياً لحل المشاكل القائمة بين البلدين؟
ومن الصعب جداً الإجابة ب “نعم” على هذا السؤال. السبب في ذلك هو أن حزب العدالة والتنمية، الذي كان قد سبق وأطلق “عملية السلام” مع الكرد على الصعيد الداخلي في تركيا، بات تدريجياً تحت تأثير حزب الحركة القومية، الذي يتبنى توجهاً قومياً تركياً، ويرفض بشكل قطعي مطالب المساواة للهوية الكردية. من جهة أخرى، يجب ألا ننسى أن أردوغان فقد جزءاً كبيراً من دعم الناخبين الكرد في الانتخابات المحلية لعام 2024 بسبب هذا التوجه. ولهذه الأسباب، أعتقد أنه من غير المرجح أن تعيد الحكومة الحالية بناء أي نوع من العلاقات مع كرد سوريا.
. وبما أنه لا يوجد مثل هذا الاحتمال، يسعى أردوغان إلى إعادة بناء العلاقات مع سوريا بمساعدة روسيا، معتمداً على خيار “التطبيع” أو “التخفيف” الذي أشرت إليه سابقاً.
ومع ذلك، من الواضح أن أي احتمال لتحقيق السلام في كلا البلدين لن يكون واقعياً إذا لم يتم التطرق إلى مطالب الكرد بالاعتراف بهم. لذلك، لا يمكن لأي من حكومتي البلدين تأسيس دولة ديمقراطية قائمة على سيادة القانون دون إشراك الكرد. هذا بالطبع إذا كانت مثل هذه الدولة هي الهدف المنشود من قبل الأنظمة الحالية في كلا البلدين.
وفي ضوء التطورات السياسية التي ذكرتها في مقدمة هذا المقال، يمكنني القول إن على كلا الدولتين أن تدركا أن إيجاد قواسم مشتركة بين الهويات المختلفة التي تشكل مجتمعاتهما هو شرط أساسي لتجاوز المناخ السياسي الصدامي. يجب أن تتوقف رغبة الهويات المهيمنة في كلا البلدين عن السعي لمواصلة إدارة الدولة من منظور مركزي يتجاهل الهويات الأخرى. وبدلاً من ذلك، ينبغي البدء بعملية سلام جديدة تقوم على أساس دستور شامل يمنح الحرية للإدارات المحلية ويحتضن جميع الهويات في المجتمع. تلبية هذه الحاجة ستكون خطوة تمهيدية هامة لكل من تركيا وسوريا كدولتين قومييتين.
ولا نعرف إلى متى ستستمر الدول القومية في الحفاظ على وجودها. لكن مثلما تحولت الإمبراطوريات الكبرى في الماضي لتترك مكانها للدول القومية، يمكننا القول إن الدول القومية أيضاً تتجه نحو تغيير مماثل. واليوم، إذا كانت العولمة قد أدت إلى ديناميكية في الهويات داخل هياكل الدول القومية، ما أوجد مناخاً صراعياً بين هذه الهويات، فإن هذا المسار يُحفّز في الوقت ذاته ولادة أشكال جديدة من الحكم والإدارة.
إن مصادر الصراعات السياسية القائمة على الهوية التي نشهدها اليوم في مختلف أنحاء العالم تسلط الضوء على الحاجة إلى ديمقراطية جديدة تقوم على تعزيز “المحلية” و”المشاركة” في أنظمة حكم الدول القومية. ولا يقتصر ذلك على الدول القومية التي تحولت فيها هذه الصراعات إلى حروب أهلية فعلية، بل يشمل أيضاً الدول الغربية التي تتمتع بأنظمة ديمقراطية راسخة. وعلى الرغم من أن تطور الأنظمة الديمقراطية في الدول الغربية قد حال حتى الآن دون تفاقم مشكلات الهوية إلى صراعات كبيرة، إلا أنه من الواضح أن هناك احتمالية لظهور مشكلات مماثلة في المستقبل، ويمكن ملاحظة بوادرها في الوقت الراهن.
في الواقع، إن مطالب الكرد في كل من تركيا وسوريا لا تتجاوز في جوهرها نمط حكم يستند إلى مفهومي “المشاركة” و”المحلية”. لا يسعى الأكراد في تركيا أو سوريا إلى “الانفصال” عن دولهم القومية، بل إن كل ما يطلبونه هو الحصول على حقوق وفرص متساوية مع الهويات الأخرى في المجتمع. ومن الواضح تماماً أن مثل هذه المطالب تُعتبر في عالم اليوم مطالب مشروعة.
إن التخلص من مفاهيم مثل الحرب الداخلية، والانقسام، والإرهاب في حياتنا الاجتماعيةلا يتحقق إلا من خلال تحقيق المساواة بين الهويات المختلفة. بهذه الطريقة فقط يمكن خلق شعور بـ”نحن” داخل الدولة القومية، بحيث يشعر فيه الجميع بالانتماء.
* تخرج من أكاديمية إسطنبول للعلوم الاقتصادية والتجارية، درس الدكتوراه في جامعة ويسكونسن في الولايات المتحدة. حصل على الدكتوراه من جامعة مرمرة التركية عام 1985، وبدأ التدريس في نفس الجامعة عام 1987. شغل منصب المستشار الاقتصادي لنائب رئيس الوزراء بين عامي 1991 و1993، وشارك في إعداد قانون المنافسة. تمت ترقيته إلى أستاذ في عام 1996. عمل كنائب لرئيس جامعة إسطنبول بيلجي بين 2001 و2005، ثم رئيسًا لقسم الاقتصاد. انتخب عضواً في مجلس الأمناء عام 2008، وعاد إلى جامعة مرمرة في 2012 حيث تقاعد في 2016.