داخل “المطبخ الأمني” الإسرائيلي، تعد القرارات الساخنة والمصيرية، وخصوصاً تلك التي تخص السلم والحرب ، بسرية تامة وعلى نار هادئة، فالأمن القومي في الذهنية الإسرائيلية يحتل المكانة الأكثر أهمية من أي قضية أخرى، ويستحوذ الجانب العسكري على المكانة المهيمنة في مفهوم الامن القومي

تتفرد إسرائيل منذ عقود بسياستها وسلوكها تجاه أمنها القومي عن بقية دول العالم بأن لها مجلساً وزارياً مصغراً للشؤون الأمنية والسياسية يعرف باسم “الكابينت”، تقع على عاتقه مهمة قصوى في حماية أمن الإسرائيليين، على رغم اختلاف تسمياته بين “اللجنة الحكومية الخاصة” و”المجلس الوزاري المصغر”، و”المطبخ الأمني” و”كابينت الحرب”.

تتركز مهمة “الكابينت” في القضايا الأمنية والعسكرية والسياسية والدبلوماسية الخارجية، تحت رئاسة وصلاحيات رئيس الوزراء إلى جانب وزراء محددين من الائتلاف الحكومي، بعضهم دائمون مثل وزراء الخارجية والأمن القومي والمالية والقضاء.

جاءت فكرة المجلس الوزاري المصغر من أجل التسهيل والتسريع في اتخاذ القرارات لصعوبة اجتماع الحكومة كاملة في القضايا المستعجلة، وله صلاحيات مطلقة في اتخاذ القرارات المتعلقة بالحرب والسلم وصفقات تبادل الأسرى واتخاذ قرارات مصيرية في حالات الطوارئ من دون الحاجة لمناقشة الحكومة أو موافقتها بكامل هيئتها.

خطوط عريضة

طرحت فكرة “الكابينت” أول مرة عام 1948، إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك ديفيد بن غوريون عارض الفكرة بشدة لرفضه مشاركة الأحزاب السياسية الأخرى في إدارة الحرب، وفي الخمسينيات تشكلت نواة “الكابينت” باسم “اللجنة الوزارية للشؤون الأمنية”، لكنها ظلت ذات تأثير صوري حتى بداية الستينيات، وفي عهد رئيس الوزراء ليفي أشكول عام 1963 تشكل “الكابينت” رسمياً وكان أحد أهدافه وقف الصراع بين النخب السياسية حول قضايا عدة أبرزها إدارة المشروع النووي الإسرائيلي.

 اقتصرت مهمة “الكابينت” في الأوقات العادية على تنسيق المفاوضات السياسية والأولوية الدبلوماسية، وبعد الفشل والإخفاق الاستخباراتي الإسرائيلي في حرب عام 1973 توسعت صلاحياته على نحو أكبر، إلى أن جاء اتفاق حزب العمل والليكود عام 1984 وشكل حكومة وحدة وطنية، مهدت بشكل كبير لتأسيس اللجنة الوزارية للشؤون الأمنية والسياسية كجزء من الحكومة، ووضع الخطوط العريضة لعملها وهيكليتها، وتشكلت آنذاك من 10 وزراء، وهو ما شكل علامة فارقة في عمل وصلاحيات “الكابينت”، الذي اقتصر أعضاؤه في السابق على رؤساء الأجهزة الأمنية وقادة الجيش.

اتضحت فكرة المجلس الأمني المصغر للمرة الأولى بصيغته الحالية عام 2001، حيث كان قبل ذلك مقتصراً على الشؤون الأمنية ووقت الأزمات فقط، ووفقاً للقانون الإسرائيلي، يضم المجلس الوزاري المصغر عدداً من الوزراء بصفتهم الوظيفية، وهم رئيس الحكومة ووزير الخارجية ووزير الجيش ووزير الأمن الداخلي ووزير العدل ووزير المالية، إلى جانب رؤساء الأحزاب التي يتشكل منها الائتلاف الحكومي.

ووفقاً للقانون أيضاً، يستطيع رئيس الحكومة أن يضم أعضاء آخرين إلى المجلس الوزاري المصغر، على أن لا يتجاوز عدد أعضاء المجلس نصف عدد أعضاء الحكومة كاملة. وما زالت الحكومة الإسرائيلية ومن يشكل الائتلاف الحكومي يعتمد إلى اليوم على هذه التركيبة لمجلس الوزراء المصغر، والذي تقع على عاتقه مسؤولية كبرى بفهم القضايا المركزية التي تتم مناقشتها باللجنة وخطورة التصويت عليها واتخاذ قرارات في شأنها.

صلاحيات واسعة

بناءً على أحكام المادة “6” من قانون الحكومة لعام 2001 والمادة “40” من “قانون أساس الحكومة” لا يمكن الطعن في قرارات “الكابينت” أو مراجعتها من قبل الحكومة. وقد أقر الكنيست الإسرائيلي في نهاية أبريل (نيسان) عام 2018 تعديلاً للقانون الأساس للحكومة الإسرائيلية المتعلق ببند “صلاحيات في شأن شن الحرب أو القيام بعمليات عسكرية واسعة”، ومنح اللجنة الوزارية لشؤون الأمن القومي “الكابينت” صلاحية اتخاذ قرار الحرب واتخاذ القرار أيضاً في العمليات العسكرية الكبيرة التي قد تقود إلى الحرب، حتى لو كان في الحالات القصوى والطوارئ، ومن دون الرجوع إلى الحكومة، حتى لو كان نصاب الأعضاء فيه بالحد الأدنى، الأمر الذي خول المجلس باتخاذ قرار بالحرب من دون الحاجة لموافقة من الحكومة.

وبإمكان “الكابينت” أن يدرس تجهيز الجهاز الأمني وأجهزة الاستخبارات وخطط تطوير الجيش ويناقش العلاقات والسياسات الخارجية والنظام الأمني وسياساته، وأي قضية أخرى بدلاً من الحكومة الموسعة بكامل الوزراء، وذلك في حال قرر رئيس مجلس الوزراء ولأسباب تتعلق بأمن الدولة أن تناقش من قبل اللجنة الوزارية المصغرة، وخلال يونيو (حزيران) الماضي عقد “الكابينت” اجتماعاً نادراً في غرفة قيادة تحت الأرض لمحاكاة اتخاذ القرارات خلال حرب محتملة على عدة جبهات.

قرارات حاسمة

بين فينة وأخرى وخصوصاً أثناء الحروب ، تتعالى أصوات كثيرة في إسرائيل عن فشل المجلس الوزاري المصغر في إدارته لعديد من الملفات، ووصلت الاتهامات إلى حد الحديث عن فقدان المجلس للخبرة، بخاصة أن عضوية “الكابينت” السياسي الأمني باتت تتأثر بالاعتبارات الحزبية، حيث لا توجد لغالبية أعضائه خلفية عسكرية أو سياسية، وكلتاهما لازمة في اتخاذ القرارات التي تخص الحرب والأمن القومي.

 

ومن الملفات التي يشار إليها بالفشل، حرب لبنان الثانية عام 2006، عندما كان إيهود أولمرت رئيساً للحكومة وللمجلس المصغر، والحرب على غزة عام 2014، برئاسة بنيامين نتنياهو، فقد أثارت هاتان الحربان ضجيجاً سياسياً ومجتمعياً واضحاً، تجلى في توجيه أصابع الاتهام لـ”الكابينت”، وكثرت الاعتراضات على تشكيله وعمله من قبل أحزاب المعارضة، كذلك تعالت أصوات من داخل الحزبين اللذين شكلا “الكابينت” (العمل والليكود) على أن المجلس الوزاري المصغر يستفرد بالقرارات، وأنه مخالف لشرعية وجود وعمل الحكومة كسلطة تنفيذية.

ومن القرارات الحاسمة التي اتخذها المجلس الأمني الوزاري المصغر في إسرائيل “الكابينت”، خلال السنوات الأخيرة، الإسراع في هدم منازل منفذي العمليات بالضفة الغربية والقدس، إضافة إلى توسيع نطاق الاعتقالات الإدارية، وقرر منذ بداية العام الحالي شرعنة 9 بؤر استيطانية إلى جانب حرمان عائلات منفذي العمليات من الفلسطينيين من التأمين الوطني، وسحب بطاقات الهوية الخاصة بسكان القدس (هوية مقيم) من عائلات منفذي العمليات، كما قرر أيضاً تسريع وتوسيع نطاق منح تراخيص حمل الأسلحة النارية للإسرائيليين، وتعزيز الإجراءات الأمنية في المستوطنات، وتعزيز وجود الشرطة والجيش وشن حملات لجمع أسلحة “غير مشروعة”.

عقوبات جماعية

بسبب توجه السلطة الفلسطينية إلى المؤسسات الدولية لملاحقة إسرائيل، قرر “الكابينت” توجيه 5 عقوبات إليها، ومن بينها اقتطاع نحو 40 مليون دولار من أموال المقاصة لمصلحة إسرائيليين تضرروا من عمليات فلسطينية، واقتطاع مبالغ مالية تعادل ما تدفعه السلطة الفلسطينية مخصصات شهرية لعائلات الأسرى والضحايا الفلسطينيين، وتقدر بنحو 600 مليون شيكل سنوياً (نحو 171 مليون دولار)، ومن العقوبات أيضاً سحب بعض “الامتيازات” من مسؤولين فلسطينيين، وتجميد مخططات بناء فلسطينية في المنطقة “جيم”، وملاحقة منظمات أهلية فاعلة في مجال ملاحقة إسرائيل قانونياً.

وعلى رغم أن “الكابينت” تبنى في يوليو (تموز) الماضي مقترحاً بالعمل على منع انهيار السلطة الفلسطينية، قرر بداية نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري وعلى أثر الحرب مع القطاع، أن يخصم من أموال السلطة الفلسطينية جميع الأموال المخصصة لغزة، وقطع كل الاتصالات مع غزة، في إشارة إلى أنه لن يكون هناك المزيد من العمال الفلسطينيين من داخل القطاع في إسرائيل.

وأمام هذه القرارات، حذرت السلطة الفلسطينية من مزيد من التصعيد، وقالت وزارة الخارجية الفلسطينية إن قرارات المجلس الوزاري المصغر للحكومة الإسرائيلية “بفرض عقوبات جماعية عنصرية، تحرض على مزيد من التصعيد والعنف”، وحذرت الوزارة من أن القرارات الإسرائيلية “من شأنها أن تصب الزيت على النار تمهيداً لتفجير ساحة الصراع برمتها”، محملة الحكومة الإسرائيلية “المسؤولية الكاملة والمباشرة عن تصعيد عدوانها وانتهاكاتها وجرائمها ضد الشعب الفلسطيني”.

حكومة طوارئ

ونظراً لأن عدد الذين يشاركون في اجتماعات “الكابينت” السياسي الأمني يتراوح عادة ما بين 35 و40 شخصاً يضمون، إضافة إلى أعضائه الوزراء، رئيس أركان الجيش وقادة الأجهزة الأمنية ورئيس هيئة الأمن القومي، والسكرتير العسكري لرئيس الحكومة، وقادة الجبهات، وقادة عسكريين آخرين، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ورئيس حزب “المعسكر الوطني” بيني غانتس، بداية أكتوبر الماضي، تشكيل حكومة طوارئ و”كابينت” مقلص لإدارة الحرب على غزة، بعد أن شنت حركة “حماس” هجوماً على مستوطنات غلاف قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي.

وفي بيان مشترك، أوضحا أن “المجلس المصغر لإدارة الحرب (كابينت الحرب) سيضم كلاً من نتنياهو ووزير أمنه يوآف غالانت وغانتس كأعضاء، على أن يشارك فيه أيضاً كل من عضو “المعسكر الوطني”، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق غادي آيزنكوت، ووزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر كمراقبين. ويعتبر الأخير واحداً من أقرب وزراء “الليكود” إلى نتنياهو، والذي يدير حالياً وزارة الشؤون الاستراتيجية، وسيتولى مهمته في “مطبخ الحرب” والمتمثلة في إبقاء الاتصال مفتوحاً مع الإدارة الأميركية، لإبلاغها بكل قرار يتخذه “الكابينت” الجديد.

ووفقاً للاتفاق، يعقد “كابينت الحرب”، اجتماعاً واحداً في الأقل كل 48 ساعة، وهو الذي يحدد أهداف الحرب على غزة، ويتخذ مختلف القرارات المتعلقة بها، وبعد ذلك، يعرض قراراته على “الكابينت” السياسي الأمني (الموسع) من أجل مناقشتها وإقرارها.

يرى مراقبون، أن تشكيل “كابينت حرب” لاستعادة ثقة الإسرائيليين المفقودة بالحكومة وبالمؤسسة العسكرية، سيسهل عملية اتخاذ القرارات المصيرية والحاسمة بما يتعلق بالحرب وأهدافها في غزة، وهي أهداف لن يكون تحقيقها سهلاً.