هو أشبه بإنقلاب أبيض على السلطة الفيدرالية ومؤسساتها الوطنية في أميركا، قاده الرئيس دونالد ترامب. لن يؤدي طبعا الى كتابة دستور جديد، ودعوة الاميركيين الى الاستفتاء عليه، لكنه بالتأكيد سيغيّر أسلوب عمل جميع المؤسسات الاتحادية الأميركية من دون استثناء، من الكونغرس الى الحزبين الرئيسيين، الى الوزارات.. وصولا بما فيها الجيش، وسيبدل طريقة إدارة السياسة الخارجية الأميركية، على نحو لا يتوقعه أحد، مما سيخيف الحلفاء والشركاء اكثر من الأعداء والخصوم، ويترك أثراً لن يمحى على توازنات وقواعد وتقاليد العلاقات الدولية.
لكنه لم يكن تمرد أقلية أميركية على الأغلبية الشعبية، بل كان تعبيراً عن إرادة جماهيرية غالبة، تجسد ظاهرة عالمية كاسحة: الشعبوية التي نُسبت خطأ الى زعماء وقادة سياسيين، بينما هي الأصل ترجمة لمزاج شعبي، ينحدر بالسياسة وقيمتها، ويحط من قيمة الثقافة السياسية ( والاجتماعية) لحساب مفاهيم ثقافية طارئة أنتجها نجوم السوشيال ميديا، الذين تحولت منصاتهم الى معابد ومزارات مقدسة، تسخّف الأحزاب والنقابات والهيئات الاجتماعية، وترِث دورها.
في الحالة الأميركية، والفاقعة، وربما الرائدة، توج رجل المال والامال والعقارات دونالد ترامب، الآتي من خارج مؤسسات الدولة العميقة، عقوداً من الاستياء والاعتراض الشعبي الأميركي الصادر عن أوساط اليمين- على اختلاف درجات تشدده- على وظيفة المركزية الاتحادية، التي صارت عبئاً على الاجتماع والاقتصاد والإدارة والسياسة، بل عائقاً لتطور الدولة والمجتمع، وسبباً رئيسياً لتراجع ترتيب أميركا العالمي، ومصدراً لتخبط زعامتها الدولية وسياساتها الخارجية.
لم ينتصر ترامب بالأمس على منافسته كمالا هاريس فقط، بل وجه ضربة موجعة الى حزبها الديموقراطي لن يتجاوزها بسهولة، والى الحزب الجمهوري الذي ركب الموجة الترامبية الساحقة، والى الكونغرس الأميركي الذي كاد يرسل الرئيس المنتخب الى السجن بعد غزوة العام 2021 الشهيرة، والى القضاء الأميركي الذي لم يكف عن مطاردته طوال السنوات الأربع الماضية، من دون جدوى..والى الجيش الأميركي الذي وصف بعض ضباطه الكبار، الرئيس ترامب بأنه “معتوه، وخطر على أميركا”، فضلا عن السلك الدبلوماسي الأميركي الذي غادره المئات عندما كان ترامب يدير السياسة الخارجية، باسلوب سمسار عقارات.
لم يترك ترامب فرصة إلا وأعلن ان كل هؤلاء هم خصومه، ويفصح عن أنه عائد لكي ينتقم منهم واحداً واحداً، مدفوعاً بتفويض صريح من 72 مليون ناخب أميركي اختاروه لكي يحول شعبويتهم المناهضة للسلطة التقليدية في أمريكا، الى عقيدة جديدة لأميركا أسوأ من عقيدة المحافظين الجدد الذين قادوا أميركا من نهاية الحرب الباردة حتى حرب العراق، وهم يحاولون اليوم التسلل الى دائرة ترامب المقربة، بمشروعهم الشهير الذي كتب العام الماضي، ونأى الرئيس المنتخب عنه: ” مشروع أميركا 2025″، الذي يهدف الى إعادة هيكلة السلطة والسياسة والاقتصاد في اميركا.
لعل خصوم ترامب الذين يمثلون مختلف مؤسسات الدولة العميقة في أميركا عندما حذروا مرارا وتكراراً خلال المعركة الانتخابية الأخيرة من التهديد الذي تتعرض له الديموقراطية الأميركية. قواعد اللعبة ما زالت محترمة الى حد كبير من قبل الاميركيين جميعاً. المؤسسات العريقة لن ترفع الراية البيضاء، ولن تتخلى عن 67 مليون ناخب، يريدون احترام القوانين والقواعد التي رسخت عظمة أميركا وريادتها العالمية. لكن السنوات الأربع المقبلة، ستمثل التحدي الداخلي الأكبر الذي تواجهه الولايات المتحدة منذ مطلع هذا القرن.
المشكلة الأصعب هي الآن خارج أميركا، حيث يقف الأعداء والأصدقاء على حافة الهاوية : كيف يمكن التعامل مع رئيس أخرق، عداوته خطرة، وصداقته مكلفة، فضلا عن أنها مستحيلة؟ هو فعلا يكره الحروب لأنها تعطل الاقتصاد، لكنه يريد انهاءها بسرعة. هذا ما قاله أكثر من مرة لصديقه الأقرب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، داعياً إياه الى “إنهاء المهمة بسرعة، مهما كلف الأمر..”. والترجمة العملية لمثل هذه العبارة هي ان حرب غزة وربما حرب لبنان لن تطول أكثر مما يلزم للقضاء على حركة حماس وحزب الله. بضعة أسابيع أو أشهر. وبعدها لكل حادث حديث مع إيران.
بيروت 7/11/2024