اليوم ومع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، علينا أن ننتظر انقلاباً كبيراً على هذا الصعيد. فالإدارة الديموقراطية كانت تتحدث عن “حل الدولتين” بوصفه أفقاً استراتيجياً غير راهن، لا بد منه، أما إدارة دونالد ترامب فلا أثر في خطابها لحل الدولتين، و”السلام الإبراهيمي” هو ما تقترحه على العالم العربي.
حضرت عبارة “حل الدولتين” بكثافة في موازاة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ولاحقاً على لبنان. دول كثيرة عادت إلى الحديث عن حل الدولتين بوصفه أفقاً وحيداً لحل النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي، والعربي – الإسرائيلي.
دول الخليج العربي، التي تجاوزت هذا المصطلح وانخرطت في “السلام الإبراهيمي” غير المشروط، أعادت حشر “حل الدولتين” في لغتها الديبلوماسية. الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية تعاملتا مع هذا الشرط بوصفه “طريقاً لا بد منه”، وهما وإن مارستا تقية حيال الخطوات التطبيعية مع إسرائيل، شعرتا أن تضمين خطابهما الرسمي معادلة “حل الدولتين” أمر لا يمكن تفاديه.
اليوم ومع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، علينا أن ننتظر انقلاباً كبيراً على هذا الصعيد. فالإدارة الديموقراطية كانت تتحدث عن “حل الدولتين” بوصفه أفقاً استراتيجياً غير راهن، لا بد منه، أما إدارة دونالد ترامب فلا أثر في خطابها لحل الدولتين، و”السلام الإبراهيمي” هو ما تقترحه على العالم العربي.
“السلام الإبراهيمي” لا يتضمن أي إشارة إلى حق الفلسطينيين بدولة، ناهيك بخطوات ترافقت مع ذلك في الزمن الترامبي الأول وتتمثّل في نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل. وإذا كان صهر ترامب جاريد كوشنير خارج المشهد اليوم، فإن ما ينتظرنا من وجوه جديدة قد يصدمنا على نحو أفدح، ذاك أن الصهر الصاعد هو اللبناني مايكل بولس، وقد يتولى المهمة هو أو والده رجل الأعمال مسعد بولس!
العودة المرجّحة إلى “السلام الإبراهيمي” ستجد لها قابلية لدى أنظمة الخليج، لا سيما أنها تترافق مع اصطفاف ترى الأنظمة هناك أنه سيحميها من إيران. بالإضافة إلى أنها تخاطب طموحات استثمارية ترى أن السياسة تُصنع في مكاتب الشركات، وأن الريوع تتقدم على ثوابت صارت بحسبها بضاعة بالية.
إنها عودة إلى “صفقة القرن” التي سيكون لها ضحاياها، الذين لن يقتصروا على الفلسطينيين. فالأردن في خريطة “صفقة القرن” هو البلد الذي يطمح بنيامين نتانياهو إلى جعله “الوطن البديل”، مع ما يترافق مع هذا الطموح من نتائج تشعر معها عمان بأن وجود المملكة مهدد بفعلها. فالقضاء على الطموح الفلسطيني بدولة لا يمكن أن يتم إلا عبر الترانسفير من غرب النهر إلى شرقه.
استيقاظ “صفقة القرن” سيأتي هذه المرة مخصباً بحربين تشنّهما إسرائيل في غزة وفي لبنان، ما قد يداعب مخيلة “السيد الجديد” للبيت الأبيض لإدخال نتائج هاتين الحربين إلى مشهد الشرق الأوسط الإبراهيمي. وهنا على المخيلة أن تشتغل طالما أننا حيال الاحتمالات الترامبية.
فالشرق الأوسط الإبراهيمي الذي لا أثر فيه لدولة فلسطينية، قد يقتضي مثلاً إحياء طموحات الترانسفير من غزة إلى مصر، وهي طموحات لاحت في بداية الحرب، إلا أن نتانياهو لم يجد من يسهّل له تحويلها إلى واقع. في الثقافة الـ”إبراهيمية” يمكن تسييل القضايا عبر دفع الأثمان الاقتصادية.
العلاقة بين ترامب والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تنطوي على احتمال من هذا النوع. نصف سكان غزة في سيناء مقابل إعفاء مصر من ديون، مضافاً إليها إغراءات استثمارية. وما يبقى من سكان غزة يمكن تحويلهم إلى قوة عمل في المشهد الاستثماري، بعد أن يتحول القطاع إلى شاطئ سياحي يحاكي المدن السياحية المصرية التي نمت في ظل سلطة عبد الفتاح السيسي. هذا احتمال يجب علينا ألا نستبعده.
أما بخصوص الحرب على لبنان، فالكارثة سبقت ترامب، إذ سيكون نتانياهو طليق اليدين في الأشهر المقبلة، وفكرة ضرب أذرع إيران قبل تشكيل الإدارة في واشنطن تخاطب السيد العتيد للبيت الأبيض، بحيث تتشكل الإدارة الجديدة لتفاوض على واقع مختلف لإسرائيل فيه يد طولى.
ليس في كل هذه السيناريوات مبالغة في ظل الانقلاب الهائل الذي أحدثته نتائج الانتخابات الأميركية. حتى لو كنا أمام نسخة ملطفة عن التجربة الترامبية الأولى، فإن ما يلوح من الوجهة الشرق أوسطية لسياسة الرجل لا يبشّر بتغيير كبير عن التجربة الأولى. فبنيامين نتانياهو هو الأقرب إلى الإدارة الجديدة، وإذا كان المطلوب منه إنهاء الحرب في غزة وفي لبنان مع تسلّم الإدارة الجديدة في واشنطن ملفاتها، فإن هذا يعني “إنجاز المهمة” وتكثيف الخطوات، ما يعني مضاعفة الموت.