لينا جرادات

لينا جرادات

غزة: تجلس “أم حسن” على شاطئ البحر غرب مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، هي وجاراتها الجديدات، يغسلن ملابس أبنائهن المتسخة بمياه البحر، بعدما نزحوا من شرق مدينة غزة إلى مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) التي أصبحت ملجأهم جراء القصف الإسرائيلي المستمر بقذائف الدبابات على المنطقة المحيطة بمنازلهم.

بعد أسبوع من الحرب الإسرائيلية على القطاع، بدأ الجيش الإسرائيلي دعواته وتحذيراته التي وصلت حد التهديد والوعيد للغزيين، بمطالبتهم بالنزوح من النصف الشمالي لقطاع غزة، حيث يقطن في تلك المناطق والمدن أكثر من مليون و300 ألف فلسطيني، إلى النصف الجنوبي للقطاع، بحجة أنّ المنطقة الشمالية هي منطقة عسكرية يتحضر الجيش لاجتياحها بشكلٍ شامل.

نزح قسم من العائلات الغزية تحت الترهيب والتهديد، خوفا على حياتهم وحياة أطفالهم ونسائهم، بعد تجارب سابقة من الحروب الإسرائيلية، فقدوا خلالها منازلهم وبعضا من أفراد عائلاتهم وأقاربهم، متوقعين أن يطالهم ما هو أسوأ من المرات السابقة بعدما نفذت المقاومة الفلسطينية على رأسها “كتائب القسام” الجناح العسكري لحركة “حماس”، عملية عسكرية برية وجوية اجتازت خلالها الحدود الشرقية للقطاع صباح السبت 7 أكتوبر/تشرين الأول في عملية سمتها الحركة “طوفان الأقصى”، وأدت إلى أسر عشرات من الجنود الإسرائيليين وغيرهم واقتيادهم إلى قطاع غزة.

تقول المرأة الأربعينية “أم حسن” لـ”المجلة”، إنها اضطرت إلى النزوح مع زوجها وأطفالهما الستة بعدما انقطعت عنهم الكهرباء والماء، وتحت وقع استمرار إطلاق قذائف الدبابات عشوائيا على منازل قريبة منهم، مضيفة: “حاولنا البحث عن منطقة أكثر أمانا تتوفر فيها الكهرباء والمياه، وهي أبسط مقومات الحياة التي نحتاجها بشكل آني في حياتنا اليومية، خصوصا المياه”.

استقرت العائلة في واحد من مراكز الإيواء التي تتبع “الأونروا” على الشارع المقابل للبحر غربي مدينة دير البلح. توافدت العائلات، وتزايدت أعدادهم يوما بعد يوم، مع اشتداد القصف الإسرائيلي، واستمرار التهديدات والتحذيرات المطالبة بإخلاء الجزء الشمالي، حيث كانت تتوفر المياه في تلك المراكز، على الرغم من إعلان الجيش الإسرائيلي قطع الكهرباء والمياه ومنع دخول البضائع والمحروقات للقطاع في اليوم الثالث للحرب على غزة.

“كنا نستحم، ونطبخ ونأكل، ونغسل الملابس” تقول “أم حسن”. لكن مع استمرار قطع الكهرباء وشُح السولار والبنزين الذي يتم تخصيص ما تبقى منه في محطات الوقود لسيارات الإسعاف والدفاع المدني، ومولدات كهرباء المستشفيات، قُطعت المياه عن مراكز الإيواء، واعتمد النازحون على شرائها من أشخاص يبيعونها على عربات تجرها الحمير في الشوارع، لكن كيف سيتمكن المواطنون من توفير مبالغ نقدية في ظل توقف الأعمال؟

 

مع طول الفترة، واستمرار الحرب، وعدم تمكن سكان غزة من ممارسة أعمالهم وتوقف الدخل، خاصة من يعمل منهم بنظام المياومة، اضطر كثير منهم للبحث عن طرق أخرى لتسيير حياتهم ومتطلباتهم اليومية الأساسية، مثلما فعلت “أم حسن” وجاراتها اللواتي أصبحن ينزلن إلى شاطئ البحر يوميا مع بداية شروق الشمس، رفقة أطفالهنّ، توضح: “نصحو باكرا، نحمل أطفالنا وبعض الملابس والأواني، نتركهم يغسلون أجسادهم في مياه البحر، ويجلبون لنا بعض المياه التي نستخدمها في غسل الملابس المتسخة، وأدوات الطبخ”.

تستطيع النساء من خلال تلك العملية، توفير المياه للاستحمام والغسيل وحتى تنظيف الأواني التي يستخدمن رمال الشاطئ في دعكها وفركها لخشونة ملمسها، وقدرتها على التنظيف، تقول سوسن الغرّة (39 عاما)، لـ”المجلة”: “احنا مُجبرين مش مخيرين، كل ما نعمله ونحاول استخدامه أجبرنا الاحتلال عليه، مع منعه شريان الحياة عنا، حتى في المناطق التي قال عنها آمنة”.

 

تنتشر النساء والأطفال على شكل مجموعات على طول الشاطئ، في الوقت الذي تقف على بُعد أميال بحرية منهم باتجاه الغرب، بوارج حربية إسرائيلية قد تطلق قذائفها في أي وقت حال وصلتها الأوامر

 

تجلس الغرّة مع نظيراتها على شاطئ البحر، بأثواب الصلاة، وتقريبا هو الزي الرسمي والموحد مع اختلاف ألوانه الذي تعتمده النساء الغزيات في أوقات الحروب والاعتداءات الإسرائيلية، ويلبسنه فوق ملابسهنّ، ويفترشنّ رمال الشاطئ لأداء أعمالهنّ المنزلية اليومية، ليس في منازلهنّ وإنما في العراء على شاطئ البحر، أمام مأوى هو في الأساس مدرسة لتعليم الأطفال القراءة والكتابة خلال المرحلة الابتدائية، ليس مُعدا لاستقبال هكذا أعداد من الغزيين أو لتوفير أماكن للغسل والطهي والنوم.

تنتشر النساء والأطفال على شكل مجموعات على طول الشاطئ، في الوقت الذي تقف على بُعد أميال بحرية منهم باتجاه الغرب، بوارج حربية إسرائيلية قد تطلق قذائفها في أي وقت حال وصلتها الأوامر لاستهداف ما، كما تفعل بوارج بحرية أخرى طول الوقت على السواحل المقابلة للجزء الشمالي من قطاع غزة.
واحد من الموجودين على الشاطئ، محمود الأقرع (34 عاما)، هو من سكان مخيم دير البلح للاجئين، ولديه مطبخ للمأكولات الشرقية، حيث كان يطهو قبل الحرب كميات كبيرة من الأرز والدواجن واللحوم يوميا، تلبية لطلبيات الأفراح والعزاء، وبعض الزبائن، لكن مع شن إسرائيل لحربها على القطاع، أصبح يعد الأرز– غالبا دون لحوم أو دواجن- مع بعض البصل والحمص، ويقوم بتوزيعه مجانا على النازحين تلبية لطلبيات يتبرع بها فلسطينيون في الخارج.
يقول: “تواصل معي بعض الأشخاص، وطلبوا مني إعداد كميات من وجبات الأرز، هم يوفرون كافة الاحتياجات الأساسية، من أرز وحمص وبصل وبهارات، وأنا أستخدم أدوات الطبخ كبيرة الحجم وهي متوفرة عندي”. لكن بسبب منع دخول الغاز، لم يعد يتمكن الأقرع من الطهي كما في السابق على الغاز، حيث يضطر لإشعال كميات من الحطب والأخشاب المتوفرة والتي يجمعها أشقاؤه الأصغر سنا، ليتمكن من إتمام عملية الطهي. ويضيف: “لكن الطبخ على نار الحطب والخشب يتسبب في صبغ الدخان الأسود على الطناجر، وتصير بحاجة لتنظيف بشكل أكبر”.
وبسبب عدم توفر المياه في منزله، يضطر للنزول هو الآخر إلى شاطئ البحر، حاملا أدواته الكبيرة بمساعدة أقارب وجيران، ويعمل على فركها برمال البحر من الداخل والخارج، وهو ما يحتاج قوة بدنية ومجهودا أكبر من العادة لتنظيفها، حتى يستطيع استخدامها في اليوم التالي لطهي كميات من الوجبات الأخرى للنازحين في مراكز الإيواء ومن هُم بحاجة إلى توفر وجبة طعام واحدة في اليوم لهم ولأطفالهم.

 

 

وشاطئ بحر غزة الممتد على طول 45 كيلومترا من ساحل البحر المتوسط، كان يعتبر في السابق المُتنفس الوحيد لأكثر من مليونين و300 ألف غزي تقطعت بهم سبل الحياة، وحُرموا من أبسط حقوقهم الإنسانية، وهي حرية التنقل والحركة دون أن يتعرضوا للمنع والتضييق بسبب فرض الاحتلال الإسرائيلي حصاره الخانق منذ عام 2007 بعدما سيطرت “حماس” على الحكم في غزة بقوة السلاح.
وحتى في ظل الحرب وتحت وقع القذائف والصواريخ، غربية الصنع والدعم، يلهو بعض الأطفال، حتى إن هناك من يعتقد أنهم لا يدركون ما يجري من حولهم. أنس طوطح (11 عاما)، طفل غزي نازح من حي الشجاعية شرق مدينة غزة، إلى دير البلح وسط القطاع، يقف على الشاطئ مع بعض الأطفال الآخرين، حيث تمتد أمواج البحر ملامسة أطراف أقدامهم.
ويقول إنه نزل إلى شاطئ البحر بعدما طلبت منه أمه أن يستحم في مياه البحر، لكنه لا يشعر بالاستمتاع: “مش كتير مبسوط، بحب البحر والسباحة، بس أنا صرلي زمان ما شفت بيتنا ولا شفت غرفتي، اشتقت أدرس وأقرأ بكتب المدرسة وأشوف صحابي لما كنا نروح على المدرسة مع بعض”.
يعبّر الطفل عن حبه للبحر، لكنه لم يتمكن من إبداء خوفه على منزلهم الذي لا يعلم عنه شيئا، هل ما زال واقفا أم أصبح كومة رُكام على غرفة نومه وملابسه وكتبه المدرسية وحاجياتهم التي اعتادوا عليها لسنوات، وكانت جزءا أساسيا من حياتهم، ويتساءل: “حتى عندما نعود، هل سنجد الكهرباء والماء؟ أشتاق للاستحمام في المنزل”.