مر أربعون يوما وأربعون ليلة على اندلاع أزمة غزة دون أن تندلع الحرب الإقليمية، التي توقع البعض أنها ستجتاح الشرق الأوسط وتعطل أسواق الطاقة والاقتصاد العالمي، لم تندلع- حتى الآن على الأقل. وها هي إسرائيل مستمرة في تنفيذ عملية “السيوف الحديدية” في غزة تحت ذريعة تدمير قدرات “حماس” والسعي بطريقة ما إلى خلق قطاع غزة جديد يحكمه أي طرف آخر غير “حماس”، بينما تبلغ إيران “حماس” بأنها لن تتدخل بشكل مباشر في الصراع، كما ذكرت بعض التقارير، لأن “حماس” لم تخطرها مسبقا بالعملية التي قامت بها في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ورغم ذلك، قام وكلاء إيران بالرد على إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة في ثلاث ساحات إقليمية مختلفة. أولاها هجمات متعددة من قبل “حزب الله” ضد إسرائيل، وهجمات إسرائيلية مضادة على طول الحدود الإسرائيلية- اللبنانية. وتشمل الثانية إطلاق الحوثيين لصواريخ بعيدة المدى وطائرات مسيرة من اليمن، والتي اعتُرضت جميعها من قبل إسرائيل، والولايات المتحدة، والمملكة العربية السعودية، أو سقطت في مناطق غير مأهولة. أما الرد الثالث، والذي ربما يكون الرد الأقل توقعا، والذي تأتي تداعياته السياسية بشكل غير متوقع أيضا، فيتضمن تصعيدا عسكريا أفقيا مستمرا منذ شهر من قبل الميليشيات المدعومة من إيران ضد القواعد العسكرية الأميركية في جميع أنحاء سوريا والعراق، والذي لا يزال مستمرا على الرغم من الضربات العسكرية الأميركية الثلاث المتتالية في فترة زمنية قصيرة نسبيا.
منذ هجوم “حماس” في 7 أكتوبر/تشرين الأول، أعلن “حزب الله” يوميا مسؤوليته عن سلسلة من الهجمات على إسرائيل، والتي عادة ما يتبعها رد فعل إسرائيلي.
على طول الخط الأزرق
دفعت هذه الديناميكية إسرائيل يوم 18 أكتوبر/تشرين الأول إلى إصدار أمر بإجلاء المدنيين الموجودين على مسافة خمسة كيلومترات من الحدود مع لبنان، مع إخلاء معظم القرى الواقعة على الجانب اللبناني من الحدود ضمن النطاق نفسه أيضا. وحتى الآن، قُتل أكثر من 70 مقاتلا من “حزب الله” و10 مدنيين لبنانيين في لبنان، بينما قُتل 10 إسرائيليين، من بينهم 7 جنود، في إسرائيل.
وتظهر التحليلات المفصلة أن “حزب الله” قام في الفترة ما بين 7 أكتوبر/تشرين الأول و14 نوفمبر/تشرين الثاني، بشن ما يقرب من 170 هجوما محددا من لبنان مستخدما أسلحة مضادة للدبابات ومدفعية وصواريخ وطائرات مسيرة.
كما استهدفت الجماعات الفلسطينية التي تعمل داخل لبنان إسرائيل بدرجة أقل. وأعلنت “كتائب عز الدين القسام” التابعة لحركة “حماس” مسؤوليتها عن 8 هجمات صاروخية من لبنان خلال الفترة نفسها، استهدف كثير منها نهاريا، واعترضها الجيش الإسرائيلي أو سقطت في مناطق مفتوحة. وحاولت “كتائب سرايا القدس” التابعة لحركة “الجهاد الإسلامي” الفلسطينية التسلل مرتين من لبنان إلى إسرائيل، في حين شنت قوات “الفجر” التابعة لـ”الجماعة الإسلامية” ثلاث هجمات صاروخية من لبنان على شمال إسرائيل.
ومن خلال هذه الهجمات، يبدو أن “حزب الله” وإسرائيل طورا قواعد اشتباك غير معلنة. ولا يبدو أن “حزب الله” يستهدف المدنيين، باستثناء الهجوم على موظفي المرافق الكهربائية، الذين ادعى “حزب الله” أنهم جنود كانوا يقومون بتركيب كاميرات مراقبة وأجهزة “تجسس” أخرى. ويستهدف الحزب في المقام الأول المواقع العسكرية الإسرائيلية ويمتنع في الغالب عن شن هجمات أبعد من منطقة الإخلاء التي يبلغ طولها خمسة كيلومترات داخل إسرائيل.
بدورها، تهاجم إسرائيل في الغالب “حزب الله” ردا على هجماته، وتستهدف فقط مصادر إطلاق النار التابعة لـ”حزب الله”، باستثناء بعض الغارات الجوية على مواقع يتوقع أنها معدة لإطلاق الصواريخ، واستخدام الفوسفور في المناطق المشجرة لحرق النباتات بهدف حرمان “حزب الله” من الغطاء الأرضي. وفي الفترة ما بين 7 أكتوبر/تشرين الأول و14 نوفمبر/تشرين الثاني، نفذت إسرائيل 327 غارة جوية أو قصف مدفعي استهدفت من خلالها مواقع في جنوب لبنان.
أطلق الحوثيين ثلاثة صواريخ كروز وطائرات مسيرة أسقطتها السفينة الأميركية “يو إس إس كارني” فوق البحر الأحمر. وقال البنتاغون إن الهدف المقصود هو إسرائي
وشن الحوثيون في اليمن عدة هجمات فاشلة بالصواريخ والطائرات المسيرة على إسرائيل، خلال الشهر الماضي، وهددوا في الأيام القليلة الماضية بمهاجمة السفن الإسرائيلية في مضيق باب المندب. ورغم أن إسرائيل والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية تمكنت من اعتراض صواريخ وطائرات الحوثيين المسيرة، إلا أن الحوثيين أثبتوا قدرتهم على إحداث الفوضى في المنطقة، حيث أسقطوا طائرة أميركية مسيرة قبالة سواحل اليمن وضربوا مناطق في مصر والأردن، وإن كان بشكل غير مقصود.
شق البحر الأحمر
بدأ رد الحوثيين في أعقاب انفجار المستشفى الأهلي يوم 19 أكتوبر/تشرين الأول، عندما أطلقوا ثلاثة صواريخ كروز وعدة طائرات مسيرة من اليمن أسقطتها السفينة الأميركية “يو إس إس كارني” فوق البحر الأحمر. وقال البنتاغون إن الهدف المقصود هو على الأرجح إسرائيل. وبحسب ما ورد فقد أسقطت المملكة العربية السعودية أحد الصواريخ التي دخلت المجال الجوي السعودي.
وفي 27 أكتوبر، تحطمت طائرتان مسيرتان مجهولتان في مدينتي طابا ونويبع المصريتين، مما أدى إلى إصابة ستة أشخاص على الأقل. وفي الوقت نفسه، أبلغت إسرائيل عن تهديد جوي من البحر الأحمر، مما يشير إلى أن الطائرات المسيرة أطلقت عن طريق الحوثيين لاستهداف إسرائيل على الأرجح. واعترض جيش الدفاع الإسرائيلي إحدى الطائرات المسيرة فوق البحر الأحمر بالقرب من نويبع، وتحطمت الطائرة الثانية في طابا بالقرب من الحدود الإسرائيلية. وبعد بضعة أيام، في 31 أكتوبر/ تشرين الأول، زعم الحوثيون أنهم أطلقوا وابلا من الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز على جنوب إسرائيل، ولم يصل أي منها إلى الأهداف المعلنة.
وتشير تقارير استخباراتية مفتوحة المصدر إلى سقوط أحد الصواريخ في منطقة المدورة في الأردن. وبعد ذلك بوقت قصير، نشر جيش الدفاع الإسرائيلي لقطات تظهر طائرة مقاتلة من طراز “إف-35” تعترض صاروخ كروز وتظهر نظام الدفاع الصاروخي بعيد المدى (آرو) وهو يعترض صاروخا باليستيا. وفي 5 نوفمبر/تشرين الثاني، ورد أن المملكة العربية السعودية أسقطت صاروخا آخر في شمال غربي المملكة بالقرب من الحدود الأردنية، وأعقب ذلك هجوم مزعوم بطائرة مسيرة أطلقها الحوثيون ضد إسرائيل في اليوم التالي، إلا أن هذا الهجوم لم يلق أي رد أو إغلاق للمطارات الإسرائيلية أو غيرها من المرافق.
واتخذ هذا التوجه منحى أكثر خطورة يوم 8 نوفمبر/تشرين الثاني، عندما أكد مسؤولو الدفاع الأميركيون أن الحوثيين أسقطوا طائرة عسكرية أميركية مسيرة من طراز “إم كيو-9” قبالة سواحل اليمن. وفي 14 نوفمبر/تشرين الثاني، هدد الحوثيون علنا السفن الإسرائيلية في مضيق باب المندب قبالة اليمن، وأعقب ذلك محاولة الحوثيين شن هجوم بطائرة مسيرة انطلقت من اليمن واعتُرضت بواسطة السفينة الأميركية “يو إس إس توماس هودنر”. إذ اشتبك طاقم السفينة مع الطائرة المسيرة وأسقطوها لضمان سلامة السفينة والعناصر الأميركيين، ولم تحدث أي أضرار أو إصابات.
أعلنت وزارة الدفاع الأميركية في 14 نوفمبر أنه ومنذ 18 أكتوبر وقع 28 هجوما ضد القوات الأميركية في سوريا و27 في العراق
ويمكن القول إن المسار الأكثر إثارة للقلق بالنسبة لواشنطن يتعلق بهجمات الميليشيات الإيرانية على القواعد الأميركية في العراق وسوريا. يُظهر التتبع التفصيلي للهجمات الإيرانية والضربات الأميركية المضادة التي أجراها زملائي في معهد واشنطن أنه منذ 18 أكتوبر/تشرين الأول– مباشرة بعد انفجار المستشفى الأهلي– شنت الميليشيات المدعومة من إيران ما يقرب من 77 هجوما منفصلا ضد عناصر أميركيين في العراق وسوريا. وشمل ذلك 43 غارة على قواعد أميركية في سوريا و34 غارة في العراق المجاور، استخدمت فيها الصواريخ والقذائف وطائرات مسيرة تتزايد دقتها بشكل مستمر.
العراق وسوريا
وأعلنت وزارة الدفاع الأميركية في 14 نوفمبر/تشرين الثاني أنه ومنذ 18 أكتوبر/تشرين الأول الماضي وقع 28 هجوما ضد القوات الأميركية في سوريا و27 في العراق. والجدير بالذكر أن البنتاغون لا يعتمد على التقارير مفتوحة المصدر عن الهجمات ما لم يُثبت أنها شنت على القوات الأميركية على وجه التحديد، وهو ما يفسر الاختلاف في أعداد الهجمات. وبغض النظر عن العدد الدقيق، فإن وتيرة الهجمات أعلى بكثير مما كانت عليه قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول.
يشير تحليل البيانات حتى الآن إلى أن الهجمات تنطلق من ثلاث مناطق؛ تركز المجموعة الأولى من الهجمات على القواعد الأميركية غرب الفرات، في غرب العراق (قاعدة عين الأسد)، وقاعدة التنف جنوبي سوريا. وتنطلق مجموعة الهجمات الثانية من شمال العراق ضد القواعد الأميركية شرق الفرات في سوريا في مناطق الشدّادي ورميلان، وشمالي العراق في مطار أربيل ومنطقة حرير.
أما مجموعة الهجمات الثالثة فتنطلق من مجموعة قواعد للميليشيات الإيرانية على الضفة الغربية لوادي الفرات الأوسط، بما في ذلك رشقات بالصواريخ قصيرة المدى على القواعد الأميركية وقوات سوريا الديمقراطية في مناطق آبار النفط في دير الزور. كما تنطلق بعض هجمات الطائرات المسيرة بعيدة المدى على مناطق الشدّادي ورميلان وتل البيدر من نفس المنطقة أيضا.
وردا على الهجمات، قامت إدارة بايدن بتنفيذ ثلاث ضربات منفصلة على أهداف تابعة للميليشيات الإيرانية في سوريا يوم 27 أكتوبر/تشرين الأول، و8 نوفمبر/تشرين الثاني، و13 نوفمبر/تشرين الثاني، ترافقت مع بيانات فورية في كل مرة تفيد بأن الرئيس بايدن يفعل ذلك لدعم القوات الأميركية. وفي حين أكد بيانا 27 أكتوبر/تشرين الأول و8 نوفمبر/ تشرين الثاني على أن الولايات المتحدة لا تريد مزيدا من التصعيد مع إيران، افتقر بيان 13 نوفمبر/تشرين الثاني لمثل هذا التأكيد– بل تضمن البيان رسالة ضمنية ولكن واضحة، تشير إلى أن الهجمات المستقبلية ستستدعي على الأغلب ردا أكبر. وقد استمرت الهجمات ليومين آخرين قبل الحصول أخيرا على ليلة من السلام في 16 نوفمبر/تشرين الثاني، بعد مرور شهر تقريبا على انفجار مستشفى الأهلي.
في حين قللت إدارة بايدن من أهمية هذه الهجمات، فإن كل حادثة منها تزيد من فرص وقوع خسائر بشرية أميركية وتداعياتها السياسية في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2024. وحتى الآن، تقول وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إنه تم تشخيص إصابة 27 شخصا بإصابات دماغية، في حين شُخّص 32 آخرون بإصابات غير خطيرة. وعاد جميع المصابين والبالغ عددهم 59 شخصا إلى الخدمة، مما يشير إلى أن واشنطن استطاعت التعامل مع الهجمات بفعالية ودون تكلفة كبيرة حتى الآن.
ولكن مع كل هجوم يزداد خطر وقوع حادث يؤدي إلى فقدان الأرواح. ومن المرجح أن يؤدي أي هجوم كبير ينتج عنه أعداد كبيرة من الضحايا إلى إطلاق الدعوات من كافة أطياف السياسة الأميركية، من اليمين واليسار، لانسحاب واشنطن من سوريا والعراق. وهذه هي النية المعلنة لتحالف سوريا الثلاثي المكون من نظام الأسد وإيران وروسيا والذي كان مشغولا هذا الصيف في محاولة تحريض الفتنة بين قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة والقبائل العربية المحلية، والتي اشتبكت مع بعضها في أغسطس/آب، وسبتمبر/أيلول الماضيين بسبب قضايا قديمة تتعلق بسيطرة الأكراد على قيادة قوات سوريا الديمقراطية والسيطرة على مجلس دير الزور العسكري.
وبشكل عام، تظل مهاجمة الولايات المتحدة في سوريا أمرا ذا مخاطر منخفضة وفوائد عالية بالنسبة لإيران وحلفائها. وتوفر سوريا قدرا كبيرا من حرية الحركة بالنسبة لخصومها العسكريين، وتتيح قواعد اللعب هناك مرونة أكبر؛ على عكس الحدود اللبنانية الإسرائيلية، حيث يبدو الجانبان حذرين من المخاطرة خوفا من ارتكاب أي خطأ يمكن أن يؤدي إلى نشوب صراع أوسع. ولكن في الوقت نفسه، فإن الافتقار إلى القواعد الواضحة وانتشار الجيوش الأجنبية العاملة في سوريا يخلق بيئة خطيرة يمكن أن تؤدي إلى تصعيد غير مقصود، وحرب إقليمية يصاحبها دمار هائل.