أولى جلسات انقسامية في وستمنستر بعد التعديلات الوزارية للزعيم البريطاني ريشي سوناك، كانت غير عادية، ليس لخطورة الوضع في غزة، بل لغياب وزير الخارجية عن الجلسات. التقاليد والقواعد الصارمة لأم البرلمانات حالتا دون حضوره.
كان الحزب القومي الأسكوتلندي، وهو ثاني أكبر أحزاب المعارضة في وستمنستر بـ43 مقعداً، قدم مشروع قرار للمناقشة، يطالب بوقف إسرائيل إطلاق النار في غزة. في اليوم التالي وضعت مجموعة معتبرة من عدد من النواب أيضاً تعديلاً على برنامج الحكومة (المعروف «بخطاب الملك») بشأن الأمر نفسه وطُرح للتصويت.
كل من حكومة حزب المحافظين ولها أغلبية كبيرة (350 مقعداً)، والمعارضة الرسمية، حزب العمال (198 مقعداً)، موقفهما الرسمي إقامة دولة فلسطينية مستقلة في إطار حل الدولتين، لكنهما يعارضان الهدنة، أي مشروع القرار والتعديل. بقية الأحزاب (50 مقعداً فيما بينها)، وعدد من نواب العمال، والأعضاء المستقلون، يدعمون قرار الهدنة الفورية. الجدل كان حامياً، خصوصاً من النواب الذين يدينون ويهاجمون الإجراءات العسكرية الإسرائيلية بسبب ارتفاع عدد الضحايا ونقص الأدوية والوقود في مستشفيات غزة.
وزير خارجية حكومة الظل، النائب العمالي ديفيد لامي، كرر موقف حزبه بمطالبة إسرائيل باحترام القانون الدولي، وعدم استهداف المدنيين، واستراحات من القتال تكفي لإيصال المستلزمات، وأيضاً تقديم البلاد مساعدات إنسانية، لكنه يعارض الهدنة؛ وركز هجومه على غياب وزير الخارجية، الذي تسلم منصبه الجديد قبيل يوم واحد فقط، وترك مواجهة النواب بحدة للرجل الثاني في الوزارة، أندرو ميتشيل.
ولشرح النظام البريطاني غير المعتاد في تركيبة الوزارات الكبيرة بأسماء مختلفة، وتحتها وزارات تحتية. ربما الأقرب لهذه التركيبة «المصالح العمومية» كأقسام تحتية للوزارات في البيروقراطية المصرية في العهد الملكي. الخارجية البريطانية (توصف بمكتب) بها أقسام لكل منها وزير دولة لشؤون محددة هو نائب في مجلس العموم، وميتشيل واحد من 5 مسؤولين عن وزرات تحتية لشؤون مناطق العالم جغرافياً.
الذي مثّل الخارجية في الجلسة كان ميتشيل وهو ليس مسؤولاً عن الشرق الأوسط، وإنما عن المساعدات الإنسانية كوزير للتنمية الدولية (كانت وزارة مستقلة قبل دمجها في الخارجية) وأيضاً عن أفريقيا.
أين الوزير الجديد، ديفيد كاميرون، الذي عرفه قرائنا رئيساً للحكومة البريطانية مرتين (2010 – 2015 و2015 – 2016)؟
كاميرون ليس نائباً منتخباً في مجلس العموم، ولا تسمح تقاليد ولوائح البرلمان لغير النائب المنتخب بأن تطأ قدمه البساط الأخضر في قاعة المجلس. كاميرون كان ترك الحكومة والبرلمان بعد رفض الشعب مشروعه لإبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، بتصويت الأغلبية لبريكست.
رئيس الحكومة سوناك أسرع بإقناع القصر، وفق اللوائح الدستورية، بإصدار المرسوم الملكي الفوري بتعيين كاميرون في مجلس اللوردات، حتى يمكن محاسبته برلمانياً. مجلس اللوردات به عدد معتبر من الشيوخ من الحزبين الكبيرين، كانوا خدموا وزراءَ خارجية في السابق، وتفوق خبرة كثير منهم خبرته السياسية وبالتالي سيستجوبونه بلا هوادة. لكن هناك انفصالاً – وأحياناً خلافاً ومعارضةً – بين المجلسين، فاللوردات تقليدياً يمثل التاج، والعموم يمثل الشعب – والخصومة تعود إلى الحرب الأهلية في القرن السابع عشر عندما دخل تشارلز الأول (1600 – 1649) في صدام دموي مع البرلمان، ولذا يشير نواب العموم إلى مجلس اللوردات بـ«المكان الآخر» ولا ينطقون الاسم.
الذي يبدو غريباً في جلستي الثلاثاء والأربعاء، هو غياب وزير متخصص في شؤون المنطقة يجادل النواب في وقت تشهد فيه غزة كارثة إنسانية؛ فالوزير المنوط بشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والأمم المتحدة منذ 2017 هو اللورد طارق أحمد، وطبعاً لا يحضر جلسات العموم، لأنه ليس نائباً منتخباً.
وهناك سوابق لوزير خارجية من «المكان الآخر»، فاللورد كارينغتنون (1919 – 2019) وكان وزيراً للخارجية (1979 – 1982) في حكومة مارغريت ثاتشر (1979 – 1983)، وكذلك اللورد إليك دوغلاس هيوم (1960 – 1963) في حكومتي السير هارولد ما كميلان (1957 – 1959 و1959 – 1963) على سبيل المثال لا الحصر.
لكن هذه المرة هي الأولى في القرن العشرين التي يغيب فيها وزير من الخارجية متخصص في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، منتخب في مجلس العموم كي يخضع للمساءلة المباشرة من النواب.
أيضاً هناك سوابق لعودة رئيس وزراء، بعد خسارته الانتخابات، وزيرَ خارجية، تتكرر كل نصف قرن، وعادة ما يستغرق الأمر 10 سنوات، مثلًا أرثر بلفور الذي كان رئيس الحكومة حتى 1906، عاد وزيراً للخارجية في 1916 في حكومة ديفيد للويد جورج الائتلافية (1916 – 1919).
بعدها بنصف قرن تكرر الأمر، فبعد خسارة دوغلاس هيوم الانتخابات في 1964 عاد بعد 10 سنوات وزيراً للخارجية في حكومة إدوارد هيث (1970 – 1974).
هناك آليات لاستجواب اللورد كاميرون أمام لجنة الشؤون الخارجية ولجان أخرى في مجلس العموم، وهناك أسئلة المجموعة الصحافية البرلمانية كممثل للرأي العام، لكن لا بديل عن المواجهة والمحاسبة في مجلس العموم المنتخب من الشعب.
في عام 1963، عندما استقال رئيس الوزراء ما كميلان لمرضه، وانتخب المحافظون اللورد هيوم زعيماً للحزب الحاكم، تنازل عن لقب «لورد» وخاض الانتخابات ليفوز ويعود لمجلس العموم رئيساً للحكومة.