
مقدمة
تولى قيادة منطقة باززان بعد استشهاد أخيه الأكبر عبدالسلام عام 1914 على يد حكومة الاتحاد والترقي التركية وهو في عمر الثامنة عشرة. ربط بين نهضة ثوار كوردستان والحفاظ على غابات البلوط والأنواع النباتية والحيوانية في جنوب كوردستان. منع قطع الأشجار للحفاظ على تربة الجبال من الانجراف كما أصدر قوانين تجرم الصيد الجائر مما حول منطقة بارزان إلى محمية طبيعية يتصادق فيها الإنسان مع الغزلان وأشجار البلوط. اليوم. نحن مدينون له بإرث ثوري إنساني وثقافة بيئية متقدمة لم يعرف لها العالم مثيلًا في تلك الحقبة، ولا حتى في الدول الأكثر تقدمًا في العقود الأولى من القرن العشرين.
في عهد هدام تعرض جنوب كوردستان لثلاثمائة هجمة كيماوية بالطيران ألحقت اضرارا جسيمة ببيئتها الخضراء، ولكنها عادت إلى الحياة بفضل ثقاقة ثوارها التي زرعها فيهم القائد الكوردي الذي عرف بلقب “خودان” بالعربية المالك أو الولي او ما يقابل اللورد بالأنكليزية.
مهندس الثورة البارزانية
وُلد أحمد البارزاني عام 1896، وهو يكبر ملامصطفى البارزاني سليل دربه بسبع سنوات في منطقة بارزان بجنوب كوردستان. في العشرينات من القرن العشرين، نجح في توحيد قبائل بارزان وبرادوست وزيبار تحت قيادته بعد حوارات طويلة، شكّل قوة عسكرية مكونة من بضعة آلاف من البشمركة، لم يتجاوز عددهم ثلاثة آلاف حسب مصادر صحفية عراقية، بالإضافة إلى عدد آخر من عناصر الشرطة والجيش الذين انشقوا عن الحكومة العراقية وانضموا للثورة. نجحوا إلى حد بعيد في طرد القوات البريطانية وقوات الحكومة العراقية من كوردستان بفضل تكتيكات حرب العصابات التي يمتهنها المقاتل الكوردي منذ قرون ومعرفتهم الواسعة بتضاريس كوردستان الوعرة.
مسار الثورة
حشدت الحكومة العراقية عشرة آلاف جندي من قوات المدفعية والمشاة، مدعومة بالقوات الجوية البريطانية، إلى جانب مرتزقة مسيحيين أطلق عليهم الأنكليز اسم الكتائب الآشورية. هؤلاء المرتزقة النساطرة ينحدرون من أصول كوردية وسورية مسيحية فروا من مناطق هكّاري إلى جنوب كوردستان واستوطنوا شرق الإقليم، في منطقة سميل، بعد حملة الإبادة التي شنتها حكومة الاتحاد والترقي عليهم ووصلت ذروتها عام 1915. كان هناك مشروع إنكليزي-فرنسي لتوطينهم في كوردستان، يشبه إلى حد كبير مشروع توطين اليهو. د في فلس.. طين وآخر توطينهم في شرق كوردستان حول بحيرة أورمية ولكن سمكو الأسطوري دفن المشروع هناك في مهده. إلا أن توطين النساطرة المسيحيين نجح في غربي كوردستان بقضل تواطئ الفرنسيين والطبيعة السلمية اللاعنفية للحراك السياسي الكوردي في سوريا.
بالعودة لمجريات ثورة بارزان الأولى فقد تعرضت منطقة بارزان وشيروان، بالإضافة إلى مدينة الموصل، لقصف مكثف من مدفعية الجيش العراقي، مدعومة بطيران الدولة الأستعمارية المعروفة ب”أم الكبائر”، وذلك لما يقرب من عامين 1931-1932. اضطر في نهايتها القائد أحمد البارزاني وعدد من جنوده إلى الفرار إلى تركيا، نتيجة الحشد العسكري الكبير الذي زاد عدده على عشرة أضعاف أعداد جيش أحمد البارزاني المسلح ببنادق بدائية، بما في ذلك نصف عدد قوات الجيش العراقي وعددهم عشرة آلاف ومرتزقة النساطرة بالآلاف والمدعومين بالطيران البريطاني والمدفعية العراقية .
لإيصال الصورة، يمكن تشبيه هذا الوضع برياضي يحطم الرقم القياسي في رفع الأثقال بحمل 200 كيلوغرام دفعة واحدة، ولكنه لن يتمكن من رفع ألفي كيلوغرام، مهما كانت قوته أو مهارته.
ساد الصمت في جنوب كوردستان بعدها لفترة من الزمن، ولكن الاتحاد القبلي الذي شكله خودان نحى مع تشكل الدولة العراقية إلى السلمية وأثمرت جهودهم إلى تأسيس حزب سياسي باسم “هيوا” أي الأمل عام 1939. لاحقًا، انضم قادة ومقاتلو حزب هيوا بقيادة ملا مصطفى إلى الرئيس قاضي محمد، حيث شكلوا معًا الحزب الديمقراطي الكوردستاني في جمهورية مهاباد الوليدة 1946، وهو الحزب الذي يحكم جنوب كوردستان اليوم بينما يقود مصطفى هجري الحزب في إيران.
امتدادات الكوردستانية
كان محمود الحفيد في الغرب يميل إلى إقامة مملكة كوردستان تحت الانتداب البريطاني، مستندا إلى فهمه العميق للسياسة الدولية في ذلك الوقت. إلا أن سمكو شكاكي زاره وألقى على مسامعه مقولة شهيرة: “أنا كوردي، وريث كوردستان، إما أن أكون فوقها سيدا أو في جوفها شهيدًا.” مستلهما من سلفه خان الكوردي ذو الكف الذهيية وهو ينادي جنده كونوا اسياد أنفسكم من اعلى أسوار قلعة دمدم عام 1610.
في المقابل، كان الخودان أحمد البارزاني ينادي بالديمقراطية والفيدرالية مع توجه طموح نحو الاستقلال التام، وهو النهج الذي أكمله أخاه ملامصطفى لاحقاً ويتابعه سيادة الرئيس مسعود البارزاني اليوم.
إمتدادات إقليمية
محاولة توطين النساطرة المسيحيين، الذين نجوا من الإبادة التي نفذتها حكومة الاتحاد والترقي في تركيا بحقهم باءت بالفشل رغم جهود البريطانيين والفرنسيين لتحقيقها. كان رفض قادة الكورد لهذه المحاولة عاملًا حاسمًا في إحباط المشروع، وإلا لكانت كوردستان اليوم ذات هوية نسطوري مسيحية كما إسر. ائيل تماما. والمشروع نسخة طبقا الأصل عن وعد بلفور الشهير، فكلاهما هارب من الإبادة الجماعية وكلاهما استعان بالاوربيين لإيجاد وطن بديل ولكنه نجح في فل.. طين وفشل في كوردستان وتلك أولى نجاحات الحركة القومية الكوردية في الظفر بالإستقلال.
الاستعماري والشخصي – إنكليزيًا
عرف عن الضابط الإنكليزي الميجر نويل الذي عمل في كوردستان بداية القرن الماضي حبه للكورد وشغفه بنبلهم وفروسيتهم. يُذكر أنه كان مصدر إلهام للأمير جلادت بدرخان لاستخدام الحرف اللاتيني في كتابة اللغة الكوردية عامي 1918 و1919 لأنها لغة هندواوربية تشبه اللغات الاوربية بقواعدها وخصائها ولفظها وبعيدة عن العربية السامية. كان الميجر نويل يتحدث الكوردية بطلاقة، وقدم مقترحات للحكومة البريطانية بوضع كوردستان تحت الانتداب البريطاني لفترة مؤقتة، يعقبها منح الاستقلال التام. غير أنه تم عزله من منصبه كمندوب سامٍ وإعادته إلى لندن لتعينه في وظيفة إدارية بسيطة. في تلك الفترة، حلت بالعراق عالمة الآثار البريطانية غيرترود بيل، التي كانت تكن كراهية شديدة للكورد، بسبب رفضهم توطين النسطورين المسيحين في كوردستان. سعت لإلحاق جنوب كوردستان بالعراق بالقوة بعد حسم امر ولاية الموصل التي تم نقل ملكيتها من الفرنسيين للأنكليز إثر تعديلات سايكس بيكو.
وفقًا لما كتبه المندوب السامي بالأردن غلوب باشا في مذكراته ولي نعمة الملك الحسين وابنه عبدالله: كانت بيل تسعى للحصول على مكانة سياسية عليا تطمح لتصبح ملكة زوجة ملك من بيادق كوكس ومكماهون، إذ كانت تتمسح بعبدالعزيز بن سعود وفيصل بن الشريف حسين بآن واحد. لكن عبدالعزيز الذي كان متزوجًا من أربع واربعين إمراة ولم يمنح مكان لها في حريمه، بينما كان فيصل يشعر بالحرج من ظهورها بجانبه نظرًا لخلفيته الدينية والاجتماعية كحفيد معظم لمحمد. في النهاية، تم تعيينها مديرة لمتحف بغداد من قبل فيصل، حيث انتهت طموحاتها السياسية بانتحارها غيظا إثر تناول جرعة زائدة من المهدئات في عام 1926 وكأن لعنة البارزاني حلت عليها هي الأخرى.
كان لغيرترود بيل دور كبير في ضم جنوب كوردستان إلى العراق عن طريق استخدام القوة الجوية البريطانية المفرطة ضد البارزاني ومحمود الحفيد والحد من طموحهما الفيدرالي والاستقلالي. ساهم هذا الضم الإجباري لاحقا في إشعال الصراعات بين الكورد والحكومات العراقية المتعاقبة. تسببت هذه السيدة ذات السمعة السيئة في معاناة هائلة لشعبنا، راح ضحيتها حوالي مليون شهيد كوردي خلال القرن العشرين في الصراعات المستمرة بين حكومات بغداد والثورات البارزانية المستمرة.
نتائج وملاحق
تم مسح مستوطنات سيميل النسطورية من خارطة جنوب كوردستان وعلى فكرة بيد الجنرال العراقي بكر صدقي أيام حكومة الكيلاني بمساندة من قبائل بهدينان وزيبار عام 1933 بعد فشل ثورة البارزاني الأولى بعام واحد وبذلك فشل توطينهم في جنوب كوردستان، بينما تصدى لهم سمكو في شرق كوردستان وافشل توطينهم منذ اللحظة التي تخلص فيها من المار شمعون في شرق كوردستان قبل ذلك بسنوات. واما الحركة الثورية الكوردية فقد نجحت في تحقيق أهدافها ابتداءا من عودة ملامصطفى من موسكو والخودان من تركيا عام 1958 إثر إنقلاب عبدالكريم قاسم على الملكية وكل ما ورد ليس سوى خطوة واحدة في سجل طويل من ثوارت من اجل الحرية والأستقلال. أرغم ملامصطفى العراق على قبول إتفاقية الحكم الذاتي عام 1970 بعد ثورة دامت عقد ونيف الحق خلالها خسائر ثقيلة بالجيش العراقي، الاتفاق الذي لم يشهده أحمد البارزاني الذي غادرنا عام 1969.
–