ما زالت الولايات المتحدة الأميركية تمضي نحو استراتيجيتها الجديدة تجاه آسيا، التي احتاجت إلى تمديد حدود الشرق الأوسط ليصل إلى تخوم روسيا والصين، وبذلك ظهر مفهوم الشرق الأوسط الكبير الذي يعني ضم مناطق جديدة مجاورة وغنية بالطاقة ومواصلات التجارة بين آسيا وأوروبا، وبذلك وجدنا مفهوم الشرق الأوسط يمتد إلى منطقة جنوب القوقاز المحاذية لروسيا وكذلك إلى منطقة باكستان ودول آسيا الوسطى المحاذية للصين، وهي مناطق ترتبط بالشرق الأوسط التقليدي عن طريق يابسة إيران وتركيا والعراق وعن طريق الممرات المائية في الخليج وبحر العرب والبحر الأحمر.
وبينما العالم منشغلٌ بالحرب في غزة التي تقع في منطقة حساسة من الشرق الأوسط، في منطقة شرق المتوسط الغنية بالطاقة، وسط مخاوف من اتساع دائرة هذه الحرب بما يعطل ممرات الطاقة والتجارة بدايةً من منطقة الخليج إلى البحر الأحمر وقناة السويس؛ نجد الاستراتيجية الأميركية مستمرة ومتفاعلة مع قوى إقليمية مثل إيران. ظن البعضُ أن هذه الدولة قد تترك ما يشغلها لوضع قدميها ضمن الاستراتيجية الأميركية تلك، بأن تتفرغ للقتال إلى جانب حركة المقاومة الإسلامية “حماس”.
لكن شواهد التحركات دلت إلى عكس ذلك، بل أعلنتها إيران صراحةً أنها تدعم “حماس” سياسياً ولن تتدخل في حرب مباشرة ما لم تختر توقيتها، وحتى تدخلاتها للضغط على الولايات المتحدة تأتي في إطار دعم استراتيجيتها في بناء الشرق الأوسط الجديد، بل ذهبت إلى البحث عن حلول لأزمة غزة مع الغربيين، ودلت إلى ذلك زيارات المسؤولين الإيرانيين نحو جنيف، الخفية والمعلنة!
محادثات نوويّة مستمرّة!
رغم الضربات العسكرية المتبادلة بين إيران والولايات المتحدة في سوريا والعراق على خلفية حرب غزة؛ هناك حديث يدور عن استمرار المحادثات النووية بين الطرفين، فقد كشف النائب وعضو لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني فدا حسين مالكي عن استمرار هذه المحادثات، وذلك على خلفية الاتفاق الموقت الذي حصلت إيران بموجبه على جزء من أموالها في الخارج في أيلول (سبتمبر) الماضي. كما كان من المقرر أن يلتقي كبير المفاوضين الإيرانيين، علي باقري، كبير مستشاري الرئيس الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، بريت ماكغورك، في مسقط العمانية، في منتصف تشرين الأول (أكتوبر) الماضي للتمهيد للعودة لتلك المحادثات بعد نجاح الاتفاق الموقت الذي مهمته التوصل إلى اتفاق غير رسمي، بما يدعم النظام الإيراني الذي يئن من العقوبات، ويدعم أيضاً الإدارة الأميركية المُقبلة على انتخابات رئاسية.
لكن كل ذلك تعطل مع حرب غزة ولكنه أيضاً لم ينته؛ فالحديث عن العودة إلى المحادثات النووية يأتي ضمن الجهود الدبلوماسية الإيرانية لإيقاف هذه الحرب التي أقر الجميع بضرورة عدم اتساعها؛ لأنه بنموذج مصغر، فإن دخول حليف إيراني مثل “حزب الله” اللبناني على خط مواجهة مباشرة مع إسرائيل، يوسع خسارته للقضاء على مكاسبه السياسية داخل لبنان، البلد الذي يوشك أن يعلن إفلاسه. ولذلك، هذا الحليف ما زال يحافظ على التحرك والتصعيد داخل المربع اللبناني المحتل.
ويدل التصعيد الحكيم بين قوات تابعة لواشنطن وطهران في المنطقة إلى أن هذين الطرفين يسعيان إلى العودة إلى طاولة المفاوضات، فالرئيس الأميركي جو بايدن رفض توصيات وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) بتوجيه ضربات عدوانية وفتاكة للقوات المدعومة من إيران في سوريا والعراق، لأنه يدير المسألة بعقلية السياسي الذي يخشى من اتساع الصراع بما يقضي على إدارة المصالح.
كذلك لم يكن أمراً اعتباطياً اللقاء الذي جمع السفير الإيراني في مسقط، علي نجفي، مع وزير المكتب السلطاني في سلطنة عُمان، سلطان بن محمد النعماني، يوم الأربعاء 15 تشرين الثاني (نوفمبر)، وتركيز نجفي خلال تصريحاته على دور السلطنة في الوساطة بين واشنطن وطهران لدعم المحادثات النووية، وكذلك بين طهران والرياض لدعم المصالحة السياسية.
وقد تزامن هذا اللقاء مع جولة شرق أوسطية للمبعوث الأميركي، بريت ماكغورك، الذي زار سلطنة عمان سراً في أيار (مايو) الماضي لتبادل الرسائل مع طهران عبر الوسيط العماني.
أيضاً، بينما قام وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، بزيارة جنيف الأربعاء 15 تشرين الثاني (نوفمبر)، للقاء المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، فولكر تورك، والنقاش معه حول الدعم الإنساني لغزة، كشفت وسائل إعلام إيرانية أن هذه الرحلة هدفها أيضاً إجراء محادثات نووية وراء الكواليس!
وتدل تصريحات وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا إلى أنها التقت عبد اللهيان وحذرته من اتساع الحرب، على أن الوزير الإيراني قد تجاوزت رحلته بالفعل موضوع غزة، لأنه التقى أطرافاً أوروبيين على ارتباط بالمحادثات النووية.
أيضاً، سبقت زيارته جنيف، زيارة أخرى لكبير المفاوضين الإيرانيين، باقري كني، الخميس 4 تشرين الثاني (نوفمبر)، التقى خلالها مساعد منسق الخارجية الأوروبية، إنريكي مورا ومديرين سياسيين لوزارات خارجية إنكلترا وفرنسا وألمانيا؛ ما يعني أن إيران كانت تسارع للحفاظ على محادثاتها النووية مع الغرب في ظل حرب غزة؛ بل ذهبت بعض التقارير من داخل إيران إلى أن اجتماعات جنيف هدفها التنسيق الأمني مع الولايات المتحدة لمنع اتساع الصدام بين الطرفين.
وكل ذلك يأتي أيضاً، بينما جدّدت إدارة الرئيس بايدن، إعفاء العراق من العقوبات المفروضة على إيران، ما يسمح للجمهورية الإسلامية بالحصول على ما لا يقل عن 10 مليارات دولار من مواردها المالية في العراق، ما يدعم شراء احتياجاتها الخارجية عبر المصرف المركزي العماني الذي يستضيف هذه الأموال.
ومثل هذه الخطوة التي هي تكرار لتخفيف العقوبات عن إيران بعد الإفراج عن 6 مليارات من أموالها لدى كوريا الجنوبية وتحويلها إلى البنوك القطرية، وذلك في إطار الاتفاق الموقت مع واشنطن؛ تعكس أن إدارة بايدن لا تريد أن يكون هناك صراع جدي مع إيران بسبب الحرب في غزة، بما تنعكس تكلفته بالسلب على الاقتصاد العالمي الذي يواجه خطر الركود بسبب ارتفاع تكلفة الطاقة وارتفاع التضخم وتباطؤ النمو، حيث يقلق العالم الغربي من أي إضرار بشحنات الطاقة القادمة من الشرق الأوسط.
 
تحييد المتشدّدين
ويبدو أن الولايات المتحدة نجحت في رهانها على أن هيمنة المحافظين على كل مراكز صناعة القرار في إيران، هو السبيل لتوحيد القرار في التعامل مع واشنطن، على عكس ما حدث من قبل، إذ سعى المحافظون المتشددون في عهد الرئيس الإيراني المعتدل السابق حسن روحاني، إلى إفشال الاتفاق النووي المبرم عام 2015، خشية من اتساع قاعدة الإصلاحيين الاجتماعية بعدما نجحوا في رفع العقوبات الأممية عن إيران بموجب ذلك الاتفاق.
لكن الحكومة الإيرانية المحافظة الحالية، تسعى إلى تحييد المتشددين عن صناعة القرار، بما يدعم الاستراتيجية الخارجية التي شعارها “الأولوية لدول الجوار”، بما يساعد إيران على تجاوز عزلتها الإقليمية.
وعملياً،  نجحت هذه الحكومة المُنصتة لأوامر المرشد الأعلى علي خامنئي في تحقيق شيء من هذه الاستراتيجية، إذ تمت المصالحة مع السعودية، وانفتحت للحوار مع دول عربية أخرى، ونجحت في إعادة الولايات المتحدة إلى طاولة المفاوضات بالشكل الذي يُرضي طريقة تفكير هؤلاء المحافظين.
لذلك في ظل حرب غزة، نجد أن جهاز الدبلوماسية في إيران يواجه أزمة صراع بين مَن يُريد الحرب ومَن يسعى لإطفاء نارها التي يمكن أن تجر إيران إلى حرب مجهولة النهاية، وهو ما يدعمه المرشد الأعلى الذي يرى أنه يجب عدم جر الحرب إلى حدود إيران.
وللمفارقة، فقد بدا الجهاز الدبلوماسي بقيادة الوزير المحافظ عبداللهيان مشابهاً لعهد الوزير المعتدل السابق محمد جواد ظريف، حتى أن المتشددين باتوا يطالبون باستجواب عبد اللهيان في البرلمان على خلفية أداء الجهاز الدبلوماسي تجاه أزمة غزة، إذ يرون أن الخطاب الدبلوماسي تزامناً مع أزمة غزة لا يتماشى مع الخطاب الثوري المطالب بمحو الكيان الصهيوني!
ويبدو أن القول الفصل للمرشد الأعلى هو ما يحمي الوزير عبداللهيان من المتشددين، بخاصة أن إيران على أعتاب انتخابات برلمانية في آذار (مارس) 2024، وهناك صراعات بين المحافظين على كسب أصوات الشارع الإيراني، بينما لم يعد يهتم بهذه الانتخابات سوى أنصار النظام من أبناء الحوزات الدينية وأبناء قوات التعبئة (الباسيج) والحرس الثوري. وهو ما حذر منه وزير الخارجية السابق جواد ظريف خلال مشاركته في الجمعية العمومية للرابطة الإسلامية لأساتذة الجامعات، الخميس 16 تشرين الثاني (نوفمبر)، إذ قال إن “القوة العسكرية يجب أن تعتمد على قوة الدعم الشعبي، وكذلك المفاوضات”.
ويشير ظريف بذلك إلى أن إيران لا يمكنها الدخول في حرب في ظل تآكل القاعدة الشعبية التي يستند عليها النظام الحاكم، مُلمحاً إلى أن تنحية الإصلاحيين عن الحياة السياسية وعزوف الناخبين عن العملية الانتخابية قد أضرا بقوة النظام أمام الخارج ولم يعززا وحدة صفه.
وهذا يفسر جانباً من تمسك إيران بمصالحتها مع السعودية وتوقيعها على البيان الختامي للقمة العربية الإسلامية التي انعقدت في الرياض في 11 تشرين الثاني (نوفمبر)، والذي تضمن تبني حل الدولتين وتشكيل الدولة الفلسطينية، فيما الموقف الإيراني يرفض هذا الحل، وكذلك رغبتها في عدم اتساع الحرب بما ينسف كل جهودها الإقليمية لدعم استراتيجيتها الخارجية.
وهو ما تكشف صراحة بلسان نائب وزير الخارجية باقري كني الذي هاجم المتشددين قائلاً: “نحذر من استخدام السياسة الخارجية في الألاعيب السياسية الداخلية، فإن الدبلوماسية فن توظيف كل الطاقات من أجل تحقيق المصالح الوطنية في العالم الخارجي، وإن أي انحراف عن ذلك يندرج في مسار تحقيق أهداف الأعداء!”.
المصالح الوطنية أولاً
النتيجة هنا، أن هيمنة المحافظين على السلطة في إيران دفعتهم إلى لعب سياسة وليس لعب ثورة، وأن الخطاب الثوري لا أهمية له في معادلة السياسة الخارجية لإيران إلا تحقيق المصالح الوطنية وليس القيم المثالية. وشاهد ذلك أنه بينما كان الخطاب الثوري يوهم العالم الخارجي بأن إيران قد تتورط في حرب مع الولايات المتحدة وإسرائيل، كانت إيران توقع على اتفاق دولي في اجتماع وزراء نقل منظمة التعاون الاقتصادي (ايكو) في طشقند-أوزبكستان، الثلثاء 7 تشرين الثاني (نوفمبر)، ينص على إنشاء ممر دولي بين آسيا وأوروبا، يمر عبر أوزبكستان-تركمانستان-إيران-تركيا.
وهذا الممر يدعم وضع إيران على خريطة الاستراتيجية الأميركية التي تهدف إلى ربط آسيا بأوروبا، كما يعزز مشروعها الاستراتيجي مع روسيا ممر شمال-جنوب الذي يربط مياه جنوب إيران بشمالها، وهذا يأتي على أعتاب فصل الشتاء الذي يعزز من أهمية إيران كممر للطاقة القادمة من آسيا الوسطى نحو أوروبا عبر تركيا.
ويكفي أن ننظر لزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مطلع الشهر الجاري لدولتي كازاخستان وأوزبكستان في آسيا الوسطى، في إطار تعويض الخسارة التي تسببت بها روسيا لفرنسا في أفريقيا، حيث حجم التجارة بين فرنسا وكازاخستان على سبيل المثال يتجاوز نحو 5 مليارات يورو، كما أن 40% من اليورانيوم الذي تحتاجه فرنسا لتشغيل مفاعلاتها النووية التي تمثل المصدر الرئيسي للكهرباء لديها يأتي من ذلك البلد، الذي يضع الوصول إليه براً وبحراً   إيران وتركيا على أولوية العلاقات الأوروبية، ما يدعم أهمية إيران في الاستراتيجية الأميركية نحو آسيا.
بل يمكن القول إن اشتعال النار في منطقة البحر الأحمر وقناة السويس وشرق المتوسط يضع إيران وممراتها على أولوية المسار البديل للقوى الغربية التي تبحث دائماً عن مسارات طاقوية وتجارية بديلة منذ اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا.