من الصعب أن تُنسى صور الأطفال الخدّج وهم ينتظرون مفارقة الحياة، وأن يُنسى اقتحام عسكر متخم بالحقد والهمجية مجمّع الشفاء ومستشفيات الأخرى في شمال غزّة، أو تغيب عن الأذهان واقعة المستشفى الأهلي المعمداني ومئات الضحايا الذين قضوا فيه ومحاولة تبرئة الإسرائيليين منها، لا لشيء إلا لأن الخبث اللاإنساني أوحى بأن المسّ بموقع له عنوان مسيحي يسيء إلى رأيٍ عامٍ متعاطفٍ مع قوة احتلال تقتل الأبرياء دفاعاً عن هذا الاحتلال. ومع تكرار السؤال الذي جاب العالم: كم من الضحايا يكفي لتعتبر إسرائيل أن انتقامها من غزّة قد أُنجز؟ لم يكن هناك جواب سوى المزيد من القتل يطارد السائرين على دروب النزوح، وفي مدارس “الأونروا”، وفي البيوت القريبة والبعيدة. استَهْوَل العالم حجم الموت الفلسطيني الذي راكمته آلة القتل الإسرائيلية على ضميره، إلى حدّ أنه نسي قتلى مستوطنات غلاف غزّة بعد مهاجمتها في اليوم الأول، وكأن الإسرائيليين أنفسهم لم يحترموا أيضاً أرواح ضحاياهم.
لم يعد هناك سرّ، فإسرائيل تتجه إلى غزو كل قطاع غزّة. قال بنيامين نتنياهو “سنكون في مكان”، وهو يعني إعادة الاحتلال. ولم يقل جو بايدن سوى أن ذلك “سيكون خطأً”، أي أنه سيتركه يحتل وسيرى بعدئذ كيف يمكن أن يؤمّن له التغطية السياسية. لكن الإسرائيلي يريد السيطرة على أطلال عمرانٍ كان، وعلى مدنٍ لها تاريخ أقدم من إسرائيل، ويريد إبادة جيل من الفلسطينيين واحتلال أرضٍ بلا سكان ليضمن البقاء بأمان، لكنه لا يؤسس لأي أمانٍ أو سلام.
إلى أين يذهب السكان؟ سيستمرّ القصف والقتل إلى أن يصبح سيناريو التهجير أمراً واقعاً. مصر رفضت سابقاً وترفض حالياً هذا المشروع، الأردن يرفضه، القمة العربية – الإسلامية ترفضه أيضاً، حتى الأوروبيون يقولون أنهم يرفضونه لكن أحداً لا يصدقهم، بل إن الإدارة الأميركية ترفضه لكنها تراوغ لإبقائه مطروحاً، وحجتها جاهزة، فهي تنتظر نهايةً ما للحرب كي تدافع عن “واقعية” التهجير، بذريعة أن القطاع سيكون عبارة عن خرائب لا يمكن لأحد أن يساهم في إعادة اإمارها، فضلاً عن الأهم وهو استحالة إعادة إسكان مليونين ونصف مليون إنسان – مع “حماس” أو من دونها – يشكّلون “خطراً” على إسرائيل وأمنها، متجاهلةً أن الاحتلال كان وسيبقى خطراً على الشرق الأوسط برمّته.
التهجير مرفوض، ليس فقط لأنه “قسري” وبالتالي يعتبره القانون الدولي “جريمة حرب”، بل لأنه لا يشكّل حلاً لـ”معضلة غزّة” بل يؤكّد السعي إلى “نكبة غزة 2023” (بحسب قول استقاه الوزير آفي ديختر من نقاشات داخلية). وهو مرفوض لأنه يرمي فعلاً إلى تصفية القضية الفلسطينية برمّتها (تحقيقاً لطموحات بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير وعقيدتهما الصهيونية الدينية). حتى الصحافة العبرية عرضت باستهجان خطاب المتطرّفين الذين استيقظ حنينهم لاستعادة مستوطنات غوش قطيف في جنوب غربي القطاع، فضلاً عن استغرابها المستوى الهابط والبذيء للخطاب الشعبوي الذي يقول فيه قادة عسكريون باللغة الأكثر “تهذيباً”: “سنبيده (القطاع) ونبيد ذكره”.
أكثر من جنون أفراد، هذا يعكس هستيريا جماعية منفلتة ولا حدود لثأريتها ووحشيتها، وهذا ما ظهر في أول احتكاك بين العسكر وسائر الموجودين في مجمع الشفاء. قالوا، لزوم الدعاية الكاذبة، إنهم جلبوا معهم مستلزمات طبية فيما كان المستشفى قد خرج عن الخدمة ولم يُحضروا وقوداً لإعادة تشغيله، ثم خرّبوا الأجهزة وحطموا خزائن الأدوية، لم يأبهوا للمرضى والمصابين وقتلوا من يحاولون الهرب من النازحين المتكدّسين في محيط المستشفى، تركوا الجميع أياماً بلا ماء ولا طعام ثم أمهلوهم ساعة للمغادرة سيراً على الأقدام وبعضهم تمنعه حاله الصحية من المشي. في تلك اللحظة، لم يقل يوآف غالانت (وزير الدفاع) أيهما كان من “الحيوانات البشرية”: العسكر الإسرائيلي أم المدنيون الذي ينكّل بهم؟
لا تتوافر كلمات لوصف ما بات “فوق الهستيريا”، خصوصاً بعد اكتشاف أن لا شيء يمكن الاعتداد به أسفل المستشفى، لا قيادة ولا مقاتلين لـ”حماس” مختبئين هناك، ولا ترسانة أسلحة، ولا مختطفين رهائن، ولا غرفة عمليات، وعلى افتراض وجودها أصلاً فقد كان هناك منذ بدء العملية البرية وقت كافٍ لإخلائها ونقلها. في أي حال، كانت تلك ادعاءات مبنية على معلومات استخبارية قديمة، لكن ذلك لم يمنع حتى البيت الأبيض من الإصرار على تصديقها، على رغم أن شهوداً إعلاميين استُقدموا من “سي أن أن” و”بي بي سي” وقالوا إن الرواية والحصيلة الإسرائيليتين فارغتان. الواقع أن الأمر لا يتعلّق بالوصول إلى “الأنفاق” مقدار ما كان استكمال إفراغ شمال غزّة ممن بقي فيه من سكان لم يجدوا مكاناً يلجأون إليه، لكن الاحتلال لا يرغب في وجودهم، إذ تعلّم من تجربته الطويلة مع القطاع قبل انسحابه منه في 2005 استحالة التعايش بين غزّة والاحتلال.
هذا النهج الإسرائيلي التائه ينعكس بقوّة على “غزّة ما بعد الحرب” وليس هناك أي تصوّر لإنهائها. فالنقاشات تُبنى على فرضيات، وأهمها “القضاء على حماس”، ما يعني في هذه الحال أن الحرب ستطول بلا “نهاية” محدّدة، لأن الإسرائيليين لم يكتفوا بنحو خمسين ألف فلسطيني بين قتيل ومفقود ومصاب وبما أحدثوه من دمار، بل لا يعترفون بأي “انتصار” ما لم تتوقف صواريخ “حماس” نهائياً، وما لم يصلوا إلى محمد الضيف ويحيى السنوار وغيرهما لاعتقالهم أو إظهار جثثهم مقتولين… أما كل الفرضيات الأخرى المطروحة فتبدو عبثية طالما أن لا إرادة دولية – أميركية تحديداً – تمنع إسرائيل من إعادة احتلال القطاع، وتحسم بقاء أهل غزّة في أرضهم لأن هذا، ببساطة، حقّهم. الولايات المتحدة والعالم الغربي أمام اختبارين: إما احترام القانون الدولي وإنفاذه، أو الرضوخ للقانون الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي. وإما أن هناك عزماً حقيقياً لإنجاز “حل الدولتين”، أو عزماً على اعتبار هذا الحل مجرّد عنوانٍ لنفاق دائم.
منذ هجوم “طوفان الأقصى” والحرب التي تلته تردّد كثيراً أن “ما حصل لم يأتِ من فراغ” (أنطونيو غوتيريش)، وأنه “نتيجة فشل المجتمع الدولي في حل سياسي للقضية الفلسطينية” (جوزيب بوريل). هاتان حقيقتان لا يمكن إنكارهما حتى في النقاشات الداخلية في واشنطن ولندن وبرلين وباريس، من دون الاعتراف العلني بهما. المسألة التي طرحتها الحرب ترتبط خصوصاً بـ”وظيفة غربية” فشلت إسرائيل في أدائها، وبـ”اتفاقات سلام” أساءت احترامها وتطبيقها، متخذةً “اتفاق أوسلو” وسيلة لتكريس استعمار فلسطين وشعبها، ومعتمدة على دعم أميركي مطلق لا يخلو من الغباء. والآن تفتقد واشنطن وسواها وجود “سلطة فلسطينية” “حيوية وجاهزة”، متناسية أنها وإسرائيل فعلتا كل شيء لإضعاف هذه السلطة وتعجيزها.