مع دخول سوريا مرحلة حاسمة بعد سنوات طويلة من الصراع، يبدو التعافي المبكر فرصةً لا يمكن إهدارها لإعادة بناء ما هدمته الحرب، بشرط أن يتم بنهج متوازن يستجيب لمخاوف السوريين في جميع المناطق ويتجنب تعميق الانقسامات. التعافي المبكر لا ينبغي أن يكون مجرد تدخل إغاثي مؤقت أو محاولة لدعم أطراف معينة، بل يجب أن يرسّخ أسسًا مستدامة تضمن لكل السوريين، دون استثناء، حق المشاركة في بناء مستقبلهم. ومن هذا المنطلق، يجب أن يتجنب التعافي المبكر أي مساعٍ لتعزيز سلطة جهة على حساب أخرى، مع الالتزام بمبدأ الملكية الوطنية الشاملة، التي تتيح للسوريين كافة الإسهام في تحديد أولوياتهم وتوجيه مسار التعافي بما يتناسب مع تطلعاتهم.
رغم أهمية التعافي المبكر، فإن البعض يرون أن المصطلح نفسه قد يحمل معه سوء فهم أو استغلال سياسي، حيث تخشى بعض الجهات السياسية السورية ومنظمات المجتمع المدني أن يتم استخدامه للترويج لفكرة أن سوريا باتت دولة آمنة، تمهيدًا لتصنيفها كبيئة مستقرة وجاهزة لعودة اللاجئين. هذا التوجه قد يستند إلى محاولة إظهار أن النزاعات انتهت، وأن البلاد بدأت بالفعل بمرحلة تعافٍ، وهو ما يعكس وجهة نظر قاصرة ومضللة، حيث أن النزاع في سوريا ما زال مستمرًا والأوضاع الأمنية في بعض المناطق لا تزال غير مستقرة. هذه المخاوف ترتبط بشكل مباشر بقضية اللاجئين السوريين المنتشرين حول العالم؛ إذ يرى البعض أن الإعلان عن بدء التعافي المبكر بدون شروط الانتقال السياسي قد يؤدي إلى تهيئة الضغط لإعادتهم قبل ضمان توفير الظروف الآمنة، والتي نص عليها قرار مجلس الأمن 2254 كأساس لتحقيق الاستقرار الدائم.
التعافي المبكر يجب أن يُنظر إليه كمسار تدريجي يتحرك بحذر بين الاستجابة الطارئة والتطوير المستدام، حيث لا يمكن تجاوز حقيقة أن العديد من المناطق لا تزال غير جاهزة لهذا النوع من التحول بسبب غياب الأمن والاستقرار. على سبيل المثال، في عام 2024، تعرض الشمال الغربي لأكثر من 1600 ضربة جوية، مما يعكس استمرار المخاطر الأمنية. لذلك، فإن الحديث عن التعافي المبكر لا يعني الانتقال الفوري أو التخلي عن الاستجابة الطارئة، بل يمكن أن يكون ممكنًا فقط في المناطق التي تتمتع بحالة من الاستقرار النسبي، مع ضمان استمرار تغطية الاحتياجات الأساسية في المناطق الأخرى.
كما يجب التركيز على اختلاف الأولويات بين المجتمعات التي تأثرت بالنزاع بشكل مباشر وتلك التي حافظت على بعض الاستقرار. لذلك، فإن المقاربة العادلة تتطلب توزيع الموارد والمساعدات بما يتماشى مع السياقات المحلية بشكل عادل، بمعنى آخر، يجب أن يكون الدعم مخصصًا وموزعًا بعناية، بحيث تضمن العدالة في تقديم المساعدة للأكثر حاجة والأكثر تضررًا، ويكون له أثر فعّال ومستدام في تحقيق الاستقرار.
من هنا، فإن تحقيق التوازن بين تقديم الإغاثة العاجلة وتعزيز الاستقرار طويل الأمد يتطلب استراتيجيات دقيقة تضمن وصول السكان إلى الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم، مع تحسين البنية التحتية تدريجيًا بدلا من التركيز على إعادة الإعمار الشاملة التي قد تكون غير ممكنة في الوقت الحالي. ولإنجاح ذلك، يجب أن تأخذ الجهود بعين الاعتبار التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية بين المناطق المختلفة في سوريا.
إن مبدأ «الملكية الوطنية» الذي حدده برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في عام 2008 يكتسب أهمية خاصة في السياق السوري، حيث يمكن أن يشكل الأساس لضمان شمولية جهود التعافي المبكر وملاءمتها للواقع المحلي. هذا المبدأ لا يعني فقط إشراك السوريين في القرارات المتعلقة ببلدهم، بل هو أيضًا شرط أساسي لتجاوز حالة التهميش التي يعاني منها كثيرون. لكن مع تعقيد الأوضاع، يصبح تحقيق الملكية الوطنية تحديًا، حيث تتنازع قوى محلية ودولية على النفوذ والسيطرة، ما يستدعي إيجاد آليات شاملة تجعل صوت كل سوري مسموعًا، بغض النظر عن الجهة التي تسيطر على منطقته. إشراك كافة المناطق في عمليات اتخاذ القرار يعزز من تماسك المجتمع السوري ويبعث برسالة مفادها أن التعافي ليس مشروعًا حكوميًا أو دوليًا فقط، بل هو جهد مشترك لبناء وطن يشمل الجميع.
إلى جانب ذلك، يمثل مبدأ «عدم الإضرار» أحد الركائز الأساسية في مسار التعافي، إذ يجب أن تكون جميع الجهود حيادية قدر الإمكان لتجنب تحويل الدعم الدولي إلى أداة تعزز الانقسامات. في ظل التحزبات والانقسامات، قد يؤدي تركيز التمويل والإشراف بيد جهة معينة إلى استخدام الموارد بشكل يزيد التوتر ويعمق الإحساس بالإقصاء لدى البعض.
لهذا، لابد أن تتبنى المؤسسات الدولية والمحلية آليات مراقبة وشفافية تضمن توزيع المساعدات بشكل عادل، بما يحافظ على السلم الاجتماعي ويعزز الانتماء الوطني، وليس فقط على مستوى السياسة والاقتصاد، بل أيضًا في الجوانب الإنسانية والاجتماعية.
أما على الصعيد العملي، فإن العديد من الدول والمنظمات تقدم اليوم مساعدات إنسانية تشمل الصحة والتعليم والمياه، إلا أن هذه التدخلات، على الرغم من أهميتها، تبقى حلولا قصيرة المدى ولا تساهم في بناء بنية تحتية قوية تلبي احتياجات السوريين بشكل دائم. غياب رؤية طويلة الأمد يدفع بالمجتمع إلى مزيد من الاعتماد على المساعدات الخارجية، ويضعف فرص تطوير قدرات محلية تستطيع توفير احتياجات السكان الأساسية بجهود ذاتية. لهذا، فإن تعزيز البنية التحتية ووضع أنظمة مستدامة بات ضروريًا لضمان أن تكون سوريا قادرة على الاكتفاء الذاتي مستقبلاً، خاصة في القطاعات الحيوية.
وبالنسبة للسيناريوهات المتاحة أمام سوريا، فإن التعاون الدولي يمكن أن يسهم في تحقيق التوازن إذا أُحسن توجيهه وتم الالتزام بالحيادية. الدول والمنظمات المانحة يمكن أن تلعب دورًا فعّالا من خلال تقديم الدعم الفني والمالي، لكن شرط الالتزام بالشفافية والمسؤولية وتبني المشاريع التي تساهم في تحسين حياة المدنيين من القاعدة إلى الأعلى. من جانب آخر، المنظمات المدنية السورية، رغم مواردها المحدودة، تبقى قادرة على تقديم استجابة قريبة من السكان، بحكم تواجدها ومعرفتها الحقيقية باحتياجات المجتمع، بالمقابل على منظمات المجتمع المدني السورية أن تعمل معاً على خلق شراكات داخلية سورية سورية، وبناء شراكات دولية دائمة. هذا الدور المحلي يساهم في بناء الثقة تدريجيًا ويعزز من قدرة المجتمع على الاستجابة لتحديات ما بعد الصراع.
أخيرًا، السيناريو الأكثر خطورة، وهو بقاء الوضع الراهن دون تحرك فعال، يعني أن الأزمات ستتفاقم وأن الاحتياجات الأساسية لن تتاح لمعظم السوريين، ما يهدد بتفكك النسيج الاجتماعي ويجعل من تحقيق أي حل مستقبلي أمراً شبه مستحيل. استمرار الوضع على ما هو عليه سيدفع نحو مزيد من الانقسام والتعقيد، ويجعل حلم الاستقرار بعيد المنال.
إن التحرك الفعّال نحو التعافي المبكر يتطلب رؤية شاملة وطويلة الأمد تُبنى على العدالة والمساءلة، دون المساس بضرورة الاستجابة الطارئة في المناطق الأكثر تضررًا وغير المستقرة. نجاح هذه الجهود يعتمد على تعاون الأطراف الدولية والمحلية، مع ضمان أن تكون المساعدات وسيلة لتحقيق الاستقرار، وليس أداة للتأثير السياسي أو تعميق الانقسامات. الفشل في تحقيق تعافٍ مبكر ومستدام سيبقي سوريا رهينة صراعات متجددة، وسيجعل من حلم العودة إلى الاستقرار والسلام أمرًا أكثر صعوبة وتعقيدًا.
الرئيس التنفيذي للمنتدى السوري