صدر حديثًا عن المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، في سلسلة “ذاكرة فلسطين”، كتاب حواريّ مع الدكتور جورج حبش كان أجراه في سنة 1989 شريف الحسينيّ وسائدة الأسمر، وقُيّض له أن يظهر في عام 2024 بعد أن تولّى الباحث صقر أبو فخر تحريره وتحقيقه وتقديمه ووضع عنوانًا له هو “البدايات والرفاق والمصائر”. والمحاوران رفيقان للحكيم جورج حبش منذ أيام حركة القوميّين العرب، وحوارهما هذا يتجاوز المتعارف عليه في الحوارات الصحافيّة إلى محاولة نبش ما في ذاكرة الحكيم بما يغني تاريخ أحد قادة النضال الفلسطينيّ المعاصر. أمّا محرّر الحوار فقد تجاوز عمليّة التحرير إلى إغناء النص، بما عُرف عنه في كتاباته من دقّة وتوسّع في التوضيح، بما يتيح للقارئ فهم الحوار بشخوصه وملابساته، وما عُرف عنه أيضًا من التزام القضيّة الفلسطينيّة في طورها الأكثر عقلانيّة وواقعيّة. ولهذا جاء الحوار وثيقة تعطي صورة واضحة عن الحكيم جورج حبش وعن التنظيمات التي عمل في نطاقها وفي أثناء تحوّلاتها.
وكان صقر أبو فخر القلم الذي أغنى الحوار بتوضيح ما ورد فيه من أحداث ومنظّمات وأشخاص بحيث أصبحت هوامشه إضافة نوعيّة إلى الحوار ومضامينه. ونجح الحوار في سرد بدايات عمل الحكيم والمنظّمات التي تعاون معها إلى أن اختار تأسيس حركة جديدة رغم تقاطع أفكاره مع أحزاب كانت قائمة كالبعث والسوريّ القوميّ، وكانت له ملاحظات على كلٍّ منهما. وقد أضاف أبو فخر توضيحات شتّى تغني الباحث في كثير من المعلومات، وأنار على التباين في داخل الحركة في الموقف من نكسة حزيران/ يونيو 1967 ومن عبد الناصر ومن الكفاح المسلّح الذي آل إلى تأسيس الجبهة الشعبيّة، ثم انشقاق الجبهة الديمقراطيّة عنها. والحديث يطول عن تلك المرحلة، ولا يغني ذلك عن قراءة النص بكامله.
جورج حبش ومها أبو خليل في عام 1970 (Getty)
ثمّة إضافات مهمّة تتعلّق بالتعريف بشخصيّات أثّرت في مسار الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة وبداياتها مثل إبراهيم أبو دية ومحمد خليفة وحامد الجبوري وعلي منكو ونزار جردانة وحمد الفرحان وحمدي مطر وعبد الله حمودة وثائر صلاح الدين وغيرهم كثير. ولا ننسى التعريف بجمعيّات وهيئات كان لها شأن لدى المؤسّسين مثل العروة الوثقى وكتائب الفداء العربيّ ومجموعتي الأردن (علي منكو ونزار جردانة وحمد الفرحان ومحمد الرشدان ومحمد طوقان وأحمد الطوالبة) ومجموعة الضفّة الغربيّة (صلاح عنتباوي ومحمد العمد وممدوح السخن وصبحي غوشة) وكذلك أبطال العودة وجمعيّة كل مواطن خفير.
وأظهر الحوار التباينات ضمن المجموعة المؤسّسة ومنها:
التباين بين خطّ الممارسة وخطّ التنظير، وقد مثّل وديع حدّاد الخط الأوّل وهاني الهنديّ الخط الثاني، وآل في عام 1976 إلى خروج وديع من الجبهة الشعبيّة والانصراف إلى العمليّات الخارجيّة.
التباين بين خطّ عربيّ وآخر فلسطينيّ، ومثّل الخط الأوّل في المرحلة الأولى اللبنانيّون: محسن إبراهيم ومصطفى بيضون ومحمد كشلي، وأُضيف إليهم في السبعينيّات نايف حواتمة الأردنيّ وهاشم علي محسن العراقيّ، فيما مثّل الخط الثاني جورج حبش والمجموعة الفلسطينيّة حوله (ص 89).
التباين في الموقف من جمال عبد الناصر، خاصّة بعد تأميم قناة السويس والوحدة المصريّة السوريّة؛ بين قائل بضرورة إلغاء التنظيم والانضواء في صفوف الناصريّة، وبين مَن تمسّك ببقائه مستقلًّا عن الناصريّة (ص71 و78).
التباين في الموقف من إقدام الحركيّين في جنوب اليمن على إطلاق الكفاح المسلّح في عام 1963 بموافقة عبد الناصر، ورفض آخرين لطبيعة اليمن القبليّة (ص 79).
التباين في الموقف من منظّمة التحرير الفلسطينيّة.
التباين في الموقف من تبنّي الفكر الاشتراكيّ الذي ظهر بعد تبنّي عبد الناصر لها في عام 1961 (ص 100)، ثم بعد أن تبنّت الجبهة الشعبيّة الماركسيّة، وهناك مَن قال بإمكانيّة التحوّل من تنظيم برجوازيّ صغير إلى تنظيم ماركسيّ- لينينيّ، وهناك مَن رأى استحالة ذلك (حواتمة، ص 103).
التباين في الموقف من هزيمة 1967 بين يائس من الاستمرار في النضال، وبين مَن حمّل عبد الناصر وقيادة البرجوازيّة الصغيرة المسؤوليّة عن ذلك (ص 117-119).
التباين في الموقف من عمليّات الخارج الذي أصرّ عليها وديع حدّاد، ولم يأخذ آخرون ومنهم الحكيم في مرحلة لاحقة بها ما أدّى إلى خروج حدّاد ومجموعته من الجبهة (ص 163- 175).
في مفهوم الحزب السياسي
سأحاول في هذه المراجعة تلمّس مفهوم الحزب السياسيّ في تفكير جورج حبش كما يظهر من خلال هذا الحوار، خاصّة وأنّ تجربته غنيّة في التنظيمات التي شارك في تأسيسها. فإذا أخذنا محدّدات الحزب السياسيّ، أي أنّه حقل سياسيّ يشتغل فيه؛ وهدف يسعى إليه؛ وحامل اجتماعيّ متناغم مع هدفه؛ وبشر منضوون في صفوفه؛ وتنظيم ينسّق جهوده؛ وفاعليّة يقوم بها تحت اسم يعبّر عنه، نستشفّ من الحوار الآتي:
لم يتعمّد الحكيم والمؤسّسون بناء حزب، ولم ينطلقوا من نظريّة، بل كان حراكهم ردّة فعل عفويّة على الهزيمة في فلسطين في عام 1948 (ص 59).
لم يعطِ الحكيم والمؤسّسون اسمًا لحراكهم وهم ينشطون في حلقات قسطنطين زريق الداعية إلى قيام حركة عربيّة واحدة، والتي انكفأت بعد النكبة، وتعاونوا مع البعث في وحدويّته، ومع السوريّين القوميّين في فلسطينيّتهم، لكن لم يرق لهم في البعث عدم مركزيّة القضيّة الفلسطينيّة لديه، ولم يرق لهم سوريّة الحزب السوريّ القوميّ، وكانوا في خصومة مع الحزب الشيوعيّ لموقفه المؤيّد لقرار التقسيم، وتعاون حبش وهاني الهنديّ مع كتائب الفداء العربيّ السوريّة (ص 18-20). وحين حسموا الاسم المتداول بينهم، أي الشباب القوميّ العربيّ، واختاروا اسم حركة القوميّين العرب في عام 1958، نشطوا في تأسيس الفروع في البلدان العربيّة (ص 37)، واختاروا مصطلح حركة لا حزب لسببين: السمعة السيّئة للأحزاب، وتوجّههم الحركيّ/ الممارسة لا التنظيميّ (ص 37). ويمكن أن أضيف سببًا ثالثًا هو المناخ الإسلاميّ الرافض للحزبيّة والأحزاب منذ أيّام الدعوة الإسلاميّة، ولا يزال ذلك المناخ يُكرّر في خطب الجمعة والأعياد تعبير: “وهزم الأحزاب وحده…”. وظلّ هذا الهاجس مقيمًا حين تحوّلوا إلى الماركسيّة – اللينينيّة وبنوا تنظيمات حزبيّة ماركسيّة.
لم يحدّد الحكيم والمؤسّسون حقلًا سياسيًّا لعملهم، فهم في تكوينهم وغاياتهم افترضوا أنّ فلسطين حقلهم السياسيّ، لكن لا وجود لدولة فلسطين، فهي في قسم منها مغتصبة، وفي قسم آخر مستتبع لمصر والأردن. وهم في هويّتهم الفكريّة عروبيّون ينشدون الوحدة، لكن لا حقل سياسيًّا عربيًّا واحدًا لهم، فكانوا، مثل جميع التنظيمات والأحزاب العروبيّة، يشتغلون من دون حقل سياسيّ، وحقلهم متخيّل لا يتيح لهم العمل السياسيّ الشامل والمتكامل.
لم يحدّد الحكيم والمؤسّسون هدفًا يمكن أن تُبنى عليه إستراتيجيّات وبرامج لتحقيقه. وما حُدّد في المؤتمر الأوّل كشعار “وحدة، تحرّر، ثأر” كان غاية لا تستقيم مع العمل الحزبيّ، وإن أمكن استقامتها مع الدعوة. وهو يخرج الثأر عن الاستهداف السياسيّ الذي لم يحتمله بعض أوائل المؤسّسين لكثرة ما عرّضهم للنقد، بما فيها النكتة المشهورة لسامي الصلح التي أوردها صقر أبو فخر في هوامشه، وهي قول منسوب للصلح يسخر من هذا الشعار بالتساؤل: هذه ثورة أم شاورما؟ إلى درجة أنّ الهيئة القياديّة عقدت دورة في عام 1959 لتغيير كلمة الثأر، وكان المبادر إلى ذلك محسن إبراهيم، وانتهى إلى استبدال الثأر باسترداد فلسطين، علاوة على عدم التمييز بين اليهوديّ والصهيونيّ، والتشابك بين المراحل. وكان جدل القطريّ والقوميّ من جهة والقضيّة الطبقيّة من جهة ثانية مطروحين في الحركة، ويفترض وضوحهما منذ البداية، ولم يُحسم ذلك الجدل حتى بعد انفصال سورية عن مصر.
لا تتيح ردّة الفعل التي دفعت لتأسيس حركة القوميّين العرب ولا الشعارات المرفوعة وجود حامل اجتماعيّ محدّد للحركة، ويمكن القول، بتساهل، إنّ حامله الاجتماعيّ هو كلّ العرب، على ما بينهم من تناقضات وتباينات في المجالات السياسيّة والجغرافيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وتجسّد ذلك في صفوف الحركة في فئتين: مثقّفون حداثيّون وكانوا هم القيادة، وهامشيّون فلسطينيّون شكّلوا القاعدة، والجامع بينهما هو الدعوة إلى تحرير فلسطين والوحدة العربيّة.
لم يكن للحركة تنظيمٌ ضمن المتعارف عليه بين الأحزاب، والإطار المنظّم الذي جمع الحركيّين كان مركزيًّا يقوده المؤسّسون الأوائل. ولا يُظهر الحوار العلاقة بين القادة والأعضاء، وأوّل مؤتمر للحركة عُقد في عام 1956، وأوّل تحديد تنظيميّ جرى في عام 1959، وهو عشر مبادئ تنظيميّة، من دون نظام داخليّ، وهي مبادئ حدّد بعضها الحكيم وهي: قيادة جماعيّة، القيادة للأكفأ، القيادة تصعد من صفّ الأعضاء، النقد والنقد الذاتيّ، الوحدة الفكريّة أي عدم وجود أجنحة، المركزيّة المرنة (ص 38)، من دون أن يلحظ كيفيّة إنتاج القيادة في الحركة وحقوق الأعضاء وواجباتهم، إلى درجة لم يتذكّر الحكيم هذا الجانب.
كانت الحركة فعّالة، لكن لم يتّضح من الحوار أساليب الفعاليّة. وقد تكون الفعاليّة متأتّية من وهج القضيّة الفلسطينيّة وحلم الوحدة الذي اصطدم بقيام إسرائيل وهزيمة الدول العربيّة. ولم يكن للحركة برنامج سياسيّ (ص 66) ولم يكن لها، وهي القائلة بالثأر، خطّة وبرنامج للكفاح المسلّح. وحين انتعش الحراك الفلسطينيّ من أجل ذلك في أواخر الخمسينيات، كان التدريب العسكريّ للإعداد لا للمباشرة بالعمل المسلّح، وكان ثمّة من يتساءل: هل يمكن أن ينجح العمل المسلّح من دون حاضنة عربيّة؟ (ص 75).
يمكن القول بعد تتبّع الطبيعة الحزبيّة للحركة أنّ المؤسّسين- كما ظهر من الحوار- لم يبنوا حزبًا، وقد يكون ذلك جرّاء الهزيمة واستعجال الردّ، كما قد يكون ناجمًا عن الفهم الدعويّ الذي يحمل تقليديّة ما من خلال الانسياق مع الحزبيّات القائمة على القائد/ الزعيم المتماهي مع مزاج جماعته من جهة، أو المماهاة مع المزاج العاطفيّ للناس، وهو مزاج دعويّ لا سياسيّ من جهة أخرى. ولم تؤدّ محاولات تأسيس حزب في الستّينيات إلى تأسيس فعليّ له لأنّ تلك المحاولات حملت إرثها الحركيّ من جهة، وتقليد النموذج السوفياتيّ من جهة ثانية، ولضغط البروز الذي أملته علنيّة العمل المسلّح وتنافس الدول عليه من جهة ثالثة.
يتبادر إلى الذهن، بعد قراءة الحوار، وما ذكرناه من تباينات في الحركة وافتقادها شروط الحزب، سؤال: كيف استمرّ المؤسّسون فاعلين في الحراك السياسيّ الفلسطينيّ؟ قد يكون ما قاله جورج حبش في الحوار عن مسلكيّة القادة وتفانيهم وتضحيتهم (ص 66) سببًا أوّل. ويمكن أن يضاف إلى ذلك تماهيهم مع المزاج الشعبيّ العربيّ المضادّ لإسرائيل والذي يتطلّع إلى الوحدة العربيّة سببًا ثانيًا، وأولويّة التحرير والعمل بين الفلسطينيّين سببًا ثالثًا. وهذه الأسباب حالت دون انفلات التباينات التي عرفتها الحركة حتى السبعينيات. لكنّ التقدّم في العمر للقادة والوضع الصحّيّ لحبش من جهة أولى، وإغواء استنساخ النموذج السوفياتيّ من جهة ثانية، والإغراءات من جهة ثالثة أضعفت هذه الحصانة.
ولا يعفي مراجعتي للحوار واستنتاجاتي عن معنى الحزب في فكر حبش، والذي يمكن أن يعمّم على المؤسّسين الآخرين وعلى مؤسّسي الأحزاب الأخرى أيضًا، دون قراءة الحوار كلّه، وهي قراءة ممتعة، وفيها جوانب في مزايا حبش الشخصيّة، وفي العلاقة الإنسانيّة مع الرفاق، بمن فيهم المحاوَران، وفي تعمّده الاستفادة من كلّ ما يخدم هواه المقيم والدائم في تحرير فلسطين.
عنوان الكتاب: البدايات والرفاق والمصائر: حوار مع جورج حبش المؤلف: حاوره شريف الحسيني وسائدة الأسمر، وحرره صقر أبو فخر