أدّت سيطرة “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) على مدينة حلب الاستراتيجية شمالاً إلى خلط الأوراق الميدانية والسياسية في سوريا مجدداً، لتتركز الأنظار مرّة أخرى على خط دمشق-أنقرة بعد سلسلة من الاتّصالات الدبلوماسية التي شهدتها دمشق والعواصم الإقليمية المعنية.
وتعتبر خسارة حلب انتكاسة كبيرة للحكومة السورية، التي اعتبرت سيطرتها على المدينة في السابق نقطة تحول في الحرب كونها ثاني أكبر مدن البلاد، ونقطة صراع محورية تتعدّى انعكاساتها الحدود المحلية، تغيّر من الديناميكيات الإقليمية.
اللاجئون السوريون إلى الواجهة
رغم النفي التركي المتكرر لدور أو علاقة لها في الهجوم المفاجئ الذي نفّذته الفصائل الإسلامية المسلّحة على حلب فجر الأربعاء، إلا أن دمشق تبدو على قناعة تامة بوقوف أنقرة وراء هذا التحرّك العسكري المباغت في منطقة “خفض التصعيد”، وهو ما أشارت إليه غالبية التقارير الإعلامية العربية والغربية.
في المقابل، يعتقد المحللون الأتراك بأن تقدّم المسلّحين شمالاً سيساهم بشكل كبير في عودة اللاجئين السوريين في تركيا إلى بلادهم، ما يعني تخفيف الضغوط السياسية التي تواجهها الحكومة التركية.
وتستضيف تركيا أكبر عدد من اللاجئين السوريين المنتشرين في دول عدة، مع ما يقارب 3.5 ملايين شخص حسب الأرقام الرسمية، فيما تشير التقديرات المستقلة إلى اقتراب العدد من 5 ملايين. وقد واجهت البلاد تصاعداً في مناهضة اللاجئين التي تفاقمت بسبب التحديات الاقتصادية والخطاب السياسي، لتبلغ ذروتها في الاعتداءات التي طاولتهم في وقت سابق من هذا العام.
مؤخّراً بدأت منظمات حقوق الإنسان بإثارة مخاوفها بصوت عال بشأن الضغوط التركية المتصاعدة على اللاجئين، السوريين منهم بشكل خاص. وتشير التقارير إلى أن العديد من اللاجئين يتم إجبارهم على توقيع إقرارات بـ “العودة الطوعية”، رغم استمرار المخاطر في سوريا، بمن فيهم حاملو الأوراق الثبوتية النظامية.
بعد خسارته للانتخابات البلدية الأخيرة، بسبب سياسات أنقرة المتعلّقة بحرب غزة واستمرار تجارتها مع إسرائيل من جهة، والمشاكل الاقتصادية التي يحمّل الأتراك مسؤوليتها للاجئين، توجّه أردوغان نحو إعادة بناء علاقاته مع دمشق رغبة في تسهيل عودة اللاجئين وإدارة الأزمة بشكل أكثر فاعلية.
في الوقت ذاته، بررت تركيا وجودها العسكري في شمال غرب سوريا، الذي حال دون تقدّم الجيش السوري بمؤازرة حلفائه في عام 2020 إلى إدلب، المعقل الرئيسي للمسلّحين المتشددين في سوريا، بمنع المزيد من الهجمات التي قد تؤدي إلى تدفق جديد للاجئين إلى أراضيها، إضافة إلى منع قيام دولة كردية على حدودها الجنوبية.
وفور سيطرتها على حلب، أعلنت “هيئة تحرير الشام”، عن العمل لبدء عودة اللاجئين السوريين في المخيّمات إلى ديارهم، في خطوة تهدف إلى اراحة حكومة أردوغان وحشد المزيد من تأييد الرأي العام التركي لهجومها.
تركيا المتّهمة الأولى
وشهدت دمشق بدءاً من الساعات الأولى لخسارة حلب اتصالات دبلوماسية مكّوكية، بدأها الرئيس السوري بشار الأسد بلقاء نظيره الروسي فلاديمير بوتين في موسكو، في زيارة عمل غير معلنة، حسبما أفادت به مصادر روسية موثوقة “للنهار”، حصل خلالها على دعم روسي مفتوح، وذلك بعد تصريحات متلاحقة من الكرملين أكّدت على حق دمشق في فرض سيادتها الدستورية على الأراضي السورية.
وبعد اللقاء، تداولت وسائل إعلام روسية وسورية معلومات، أكدتها المصادر الروسية لـ”النهار” عن اجتماع عقد بين الأسد وبوتين، تلاه قيام موسكو باستبدال قائد قوّاتها العسكرية في سوريا، بالتزامن مع وعود بتزويد الجيش السوري بعتاد وأسلحة روسية متطورة ينتظر وصولها خلال الساعات ال 72 المقبلة.
وعلى أهمية الاتّصالات الهاتفية التي أجراها الرئيس الأسد مع كل من الرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد ورئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى جانب المكالمات الهاتفية لوزير خارجيّته مع كل من نظيريه العماني والفنزويلي، إلا أن الأنظار تركّزت على زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى دمشق ومن ثم أنقرة.
بعد الهجوم مباشرة اتّهمت طهران أعداءها التقليديين، الولايات المتّحدة وإسرائيل، بالوقوف خلفه، وهي التي ترى أن توقيت الهجوم مرتبط استراتيجيًا بالهدنة الأخيرة في لبنان، دون الإشارة إلى أي دور لتركيا، خلافاً للتصريحات السورية والتقارير والتحليلات الروسية.
ويشير التوجّه الإيراني إلى نهج أكثر تأن واستعداداً للانخراط مجدداً في دور وساطة بين دمشق وأنقرة وهو ما يفسّر خط سير كبير دبلوماسييها، عباس عراقجي، بعد فشل كل من موسكو وبغداد في احداث خرق على هذا المسار.
ورغم الالحاح التركي لانجاز التطبيع، إلا أن الموقف السوري الحاسم في عدم الانخراط بأي مفاوضات لا تفضي في النهاية إلى جدولة انسحاب الجيش التركي من سوريا، وإنهاء الاحتلال، أدّى إلى تغيّر لهجة أنقرة التي باتت أكثر تشدداً في تصريحاتها ضد دمشق.
تؤكد مصادر سورية رفيعة المستوى “للنهار” أن “تركيا، التي واصلت الحديث عن ضرورة عودة العلاقات مع دمشق إلى طبيعتها خلال السنتين الأخيرتين، لم تتّخذ أي خطوة متقدّمة في هذا السياق، ما خلق قناعة بأن رغبة أنقرة هي التطبيع من أجل التطبيع فقط”، وهو السبب وراء مقاومة دمشق للحماسة الروسية-الإيرانية لانجاز المصالحة.
لا شك أن خسارة حلب ضربة كبيرة لدمشق وستؤدي إلى تغيّر مشهد الصراع السوري، وتزيد من التعقيدات السياسية في الميدان والعلاقات الإقليمية، مع تحدّيات يمكن أن يتردد صداها في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، وخصوصاً الدول المجاورة لسوريا في كل من العراق ولبنان والأردن.