كانت مبرَّرة الخشية من تجاوزات وجرائم قد يرتكبها مقاتلو هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، مع زملائهم من فصائل أخرى في المناطق التي راحوا يسيطرون عليها تباعاً في شمال سورية وغربها منذ 27 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني). مبرَّرة بسبب تكوين كثير من هذه الفصائل المسلحة الإسلامية السلفية وماضيها الدموي، الفاقدة لقيادة سياسية وتمثيل شعبي حقيقي، لو وُجدا لنتج عنهما جيش معارض يستحق اسمه. فمنذ إبادة “الجيش الحر” على يد ذلك التحالف العالمي لإرهاب معسكر الأسد، في كل مرة كان يعلن فيها عن ولادة تحالف جديد يحمل اسم “جيش”، تراه يضيف تعريفاً جديداً إلى المليشيات لا الجيوش. مبرّرة نسبةً لما رأيناه من سلوك هذه الفصائل طيلة أكثر من عقد في حكم إدلب وأرياف شاسعة من حلب، بتخلف ورجعية وذكورية وكره للديمقراطية وللحرية ولقيم الثورة السورية، وبلا احترام للمرأة إن خرجت من منزلها وللصحافة وللثقافة والفنون والتحرر والخيارات الشخصية في الملبس ونمط الحياة والتفكير والتعبير، حتى أصبح اسم الجولاني مرادفاً للشتيمة. الخشية كانت مبرّرة لكن ليست حقّاً لأولئك الذين يتعاطون مع المليشيات الإيرانية وحزب الله والشبيحة والحشد الشعبي والقوات الروسية ومرتزقتها في سورية على أنها قوة تحرير وتنوير وتقدم وأمن واستقرار. فإن كانت هناك بالفعل أم للمفاجآت الكثيرة التي نشاهدها في سورية منذ 27 نوفمبر، فهي أن القوات المهاجمة، يتقدمها مقاتلو “هيئة تحرير الشام”، لم يرتكبوا في الأسبوع الأول من حملتهم العسكرية، لسوء حظ معسكر النظام السوري وحلفائه ورعاته، أي جريمة على خلفية طائفية (بحق المسيحيين في حلب مثلاً)، أو قومية (بحق مدنيين أكراد)، أو مجزرة بحق سكان باستثناء مقتل ستة مدنيين في حي البعث داخل مدينة حماة بقذائف أطلقتها فصائل معارِضة، بحسب ما أورد المرصد السوري لحقوق الإنسان (المعارض بالمناسبة)، مساء الاثنين الماضي. ما نعرفه حتى الآن عن الجرائم بحق المدنيين والمنشآت الأهلية يخبرنا عنه وزير الخارجية الإيطالي، أنطونيو تاياني، مساء الأحد الماضي، وحرفيته أن “مدرسة الأرض المقدسة الفرنسيسكانية في حلب تعرضت لهجوم روسي أدى لأضرار جسيمة”. ما شاهدنا صوره الدامية أيضاً في هذا السياق كان القصف الجوي الذي نفذه النظام السوري وطائرات روسية على المستشفى الجامعي بمدينة حلب والذي قتل مدنيين. ما رأيناه كان انتقام الجبناء بتلك المجزرة التي ارتكبتها طائرة سورية في دوّار باسل الأسد في مدينة حلب بعد دقائق من خلع تمثال صاحب الاسم عن حصانه المعدني.
في هذا الأسبوع السوري، استمعنا إلى سيدات حلبيات مسيحيات يروين لكاميرا آتية مع المسلحين المعارضين داخل أحياء مدينة حلب بعد سيطرة الفصائل عليها، أن أشجار عيد الميلاد منصوبة في منازلهنّ وأنّ أيّ مسلح لم يقتحم بيوتهنّ. ما يصلنا من حلب يفيد بأن المسلحين، حتى الآن مجدداً، يدفعون ثمن حاجياتهم التي يشترونها من الدكاكين، وهذه نكتة سمجة إن حاولت أن تنسبها لمعظم أفراد الجيش السوري النظامي أو المليشيات التي تحارب من أجله منذ 12 عاماً.
تلك مفاجآت سارة تتيح أملاً بأنّ فصائل المعارضة السورية قد ترينا هذه المرة انضباطاً وأخلاقاً إنسانية ووطنية استثنائية في نمط إدارة المناطق التي تسيطر عليها وتحكمها وفي التعاطي مع المجتمعات المحلية. إن نجحت في ذلك، تكون قد اجتازت نصف الطريق إلى برّ الأمل المستدام. النصف الثاني لا يمكن عبوره إلا من خلال كيان سياسي معارض يستحق اسمه، يعطي معنى سياسياً للإنجازات العسكرية ويصرفها في حساب المكاسب الوطنية. كيان سياسي يحدّ من الخسائر في الأرواح وفي تفتت المجتمع السوري، يتفاوض بوطنية وذكاء، يمثل كتلة سورية وازنة ومتنوعة، ديمقراطي حقاً لا بالاسم فحسب، مستقل بقراره عن الخارج لا معادياً لأصدقاء الثورة متى وُجدوا، ليس مطلوباً منه إعلان الحرب على الإسلام السياسي ولا بناء دولة إسلامية. دولة ديمقراطية أسهل طريقة لبنائها أن تكون مناقضة لسورية الأسد ولإيران الخمينية.