لم يكن اختيار “هيئة تحرير الشام” مسمَّى “إدارة العمليات العسكرية” ليكون الواجهة التي تتبنّى إدارة معركة “ردع العدوان” والنطق بإسمها اعتباطياً، بل جاء ليكمل مساراً طويلاً حاول من خلاله زعيم الهيئة أبو محمد الجولاني مأسسة قواته لإضفاء طابع الجيش الحديث عليها. ويأتي ذلك في سياق عمله الدؤوب لإرساء ما يسمّيه “كياناً سنّياً” في المناطق التي يسيطر عليها، ومحاولة منحه طابع الدولة أو الحكم الذاتي المستقل.
وقد لفتت “إدارة العمليات العسكرية” الأنظار إليها بسبب أدائها المغاير وخطابها الجديد، إلى جانب ما حظيت به في الميدان من إنجازات متسارعة فاجأت أنصارها قبل أعدائها.
وورثت “إدارة العمليات العسكرية” تركة سابقتها “غرفة عمليات الفتح المبين” التي أنشأها الجولاني عام 2019 على أنقاض “غرفة عمليات فتح دمشق”، لتكون مظلة تمنحه السيطرة والهيمنة في إدلب ومحيطها، بعدما تمكن من تدجين كل الفصائل الأخرى وإلزامها بالرضوخ لإدارته عبر توقيع اتفاقات واضحة بهذا الخصوص. وقد تخلص الجولاني من كل الفصائل التي رفضت الانضمام إلى “الفتح المبين” وعلى رأسها “حراس الدين” المبايع لتنظيم “القاعدة”.
وعلى مدار السنوات الماضية عمل الجولاني وفريقه على إعادة هيكلة القوات ضمن ألوية ذات اختصاصات عسكرية مختلفة، وتحمل غالبية هذه الألوية أسماء صحابة النبي محمد أو شخصيات إسلامية تاريخية مثل عمر وطلحة وعلي وغيرهم.
وبهدف التخلص من معضلة الفصائلية والمناطقية، سعى الجولاني لإنشاء أكاديمية عسكرية وكليات حربية لتخريج الضباط ومنحهم رتباً عسكرية. ويمكن القول بأن مساعي الجولاني أثمرت أكثر من الجهود التي بذلتها أنقرة من أجل القيام بالأمر نفسه في ما يتعلق بـ”الجيش الوطني السوري” الذي تموله، لكنها عجزت حتى الآن عن القفز فوق معضلة الفصائلية التي طالما حفّزت في منعطفات معينة للدخول في اشتباكات ضمن فصائل تتبع الفيلق نفسه من فيالق الجيش الثلاثة.
عملياً تنتمي إلى “غرفة عمليات الفتح المبين” ثلاثة فصائل هي: “هيئة تحرير الشام”(جبهة النصرة سابقاً) و”الجبهة الوطنية للتحرير”، و”جيش العزة”. لكن “الجبهة الوطنية للتحرير” تتكون من اتحاد أكثر من 15 فصيلاً كانت تعمل في إدلب وشمال حلب بأسماء مختلفة. أما “هيئة تحرير الشام” فتضمّ “جبهة النصرة” بكيانها السابق، و”جيش السنّة”، و”جبهة أنصار الدين”، و”لواء الحق”، ومجموعات من “حركة نور الدين الزنكي”. وانضمّت إليها لاحقاً مجموعات من “حركة أحرار” الشام بقيادة عامر الشيخ.
ورغم تشكيل الجولاني حكومة مدنية لإدارة شؤون إدلب، ظلت الفصائل المختلفة و”غرفة عمليات الفتح المبين” تأتمر بأوامره باعتباره زعيم الفصيل الأقوى والمهيمن، وما زالت “حكومة الإنقاذ” التابعة للجولاني خالية من منصب وزير الدفاع. ويرجح المراقبون أن يكون سبب ذلك هو عدم ثقة الجولاني بأي شخصية مهما كانت مقرّبة منه لإدارة ملف الفصائل.
وخلافاً لفصائل “الجيش الوطني السوري” التي تنتظر كلّ شهر تلقّي رواتبها من خلال الكتلة المالية التي ترسلها أنقرة، وما يشوب ذلك من تأخير وتأجيل في أحيان كثيرة، تتمتع “هيئة تحرير الشام” بمصادر مستقلة للتمويل. وقد ساهمت هيمنتها على إدارة منطقة إدلب في تزويدها بملايين الدولارات كل شهر، لا سيما من خلال السيطرة على معبر باب الهوى، وكذلك احتكار قطاعات معينة مثل الطاقة والاتصالات، علاوة على ما تجنيه من ضرائب ورسوم، وحتى من جباية أموال الزكاة.
ولكن يسود اعتقاد لدى خبراء في الحركات الجهادية بأن الأموال التي يجنيها الجولاني لا تكفي لتغطية نفقات عملية واسعة بحجم عملية “درع العدوان” التي سيطرت على حلب وتقف حالياً عند مشارف مدينة حماة. وبما أن تركيا تعاني من أزمة اقتصادية وبالكاد تتمكن من تأمين نفقات “الجيش الوطني السوري”، فقد اتجهت التوقعات إلى دولة قطر باعتبارها الجهة التي تكفّلت بتغطية احتياجات المعركة عبر قنوات متفق عليها مع الجانب التركي.
وهذا يقود إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي طبيعة العلاقة التي تربط الجولاني بالدول الداعمة له. وقد تكفي مقارنته بـ “الجيش الوطني السوري” لوضع تصور محدد. فـ”الجيش الوطني السوري” ليس مجرد تابع لقيادة الجيش التركي بل إن بعض فصائله، لا سيما “القوة المشتركة” و”السلطان مراد”، تكاد تكون جزءاً منه، وذلك لأن رواتبه تأتي من تركيا، وكذلك فإن كوادر التدريب هم ضباط في الجيش التركي. لكن “هيئة تحرير الشام” ليست كذلك، وهو ما منحها بعض الاستقلالية التي عبّرت عنها أكثر من مرّة، عبر رفضها مسار أستانا، وكذلك وقوفها ضدّ مسار التطبيع بين أنقرة ودمشق.
غير أن الاستقلالية لا تتنافى مع التخادم المتبادل بين الهيئة وتركيا ومراعاة كل طرف مصالح الطرف الآخر. والهيئة تدرك أنها لا تستطيع الاستغناء عن تركيا لأنها الرئة التي تتنفس منها من أجل مواصلة إدارة شؤون المناطق التي تسيطر عليها. وهذا يمنح أنقرة نفوذاً يجعلها قادرة على التأثير في قرارات الهيئة.
وهو ما تبدّى عملياً قبل حوالى ثلاثة أشهر عندما تجهزت لإطلاق معركة واسعة بالتزامن مع بدء التصعيد الإسرائيلي في لبنان، لكن أنقرة رفضت ذلك وضغطت لإجهاض الموعد. ولكن يبدو أن لحظة وقف إطلاق النار في لبنان شكّلت نقطة التقاء مصالح بين أنقرة والهيئة، فغضّت الأولى النظر وأطلقت الثانية معركة “ردع العدوان”.
ومع ذلك تظل الثقة بين تركيا وقيادة الهيئة قيد الاختبار الدائم. فالجولاني لا ينسى أن القوات التركية هي التي منعته قبل عامين من استكمال سيطرته على مدينة عفرين، وهي التي أجهضت مشروعه لاختراق بعض الفصائل المحسوبة عليها، وذلك عندما هاجمت “القوة المشتركة”، الأقرب إلى تركيا، فصيل “صقور الشمال” في أيلول (سبتمبر) الماضي. وكذلك فإن تركيا تعلم أن الجولاني لعب أدواراً كثيرة لمنع تمرير بعض أجنداتها، فهو الذي دعم منع تسيير الدوريات الروسية- التركية المشتركة في منطقة خفض التصعيد في إدلب، وهو الذي حرّض على مسار تقاربها مع دمشق، كما أنه منذ بداية قيام تركيا بإنشاء مواقع ونقاط في محيط إدلب تنفيذاً لمقررات أستانا، أصرّ على أن تدخل الأرتال التركية تحت مراقبة جهازه الأمني وقواته.
وقد يكون من تجلّيات هذه الثقة المحدودة، مسارعة تركيا إلى الإيعاز إلى فصائل “الجيش الوطني السوري” لإطلاق معركة “فجر الحرية”، لأن هذه الفصائل لا يمكن أن تطلق معركة من دون أمر مباشر من أنقرة. ولدى تركيا أكثر من غاية من وراء إطلاق هذه المعركة، فهي تسعى إلى القضاء على “قوات سوريا الديموقراطية” في منطقة الشهباء في ريف حلب الشمالي، والضغط على الولايات المتحدة من أجل تنفيذ التفاهم الثنائي بينهما بخصوص مدينة منبج. ولكنها أيضاً تريد أن تضع مسافة بينها وبين الجولاني، لأن الأخير مصنّف على قائمة إرهاب الأمم المتحدة. وكذلك تريد ألّا يظهر الجولاني باعتباره القائد الأوحد الذي لا ينازعه أحد السلطة على المناطق التي يُسيطر عليها، فهي تخشى في النهاية أن يكبر الوحش ولا يعود بحاجة إلى دعمها، هذا إذا لم ينقلب عليها لاحقاً لسبب أو لآخر.
وما يؤكّد هذه الفرضية هو أن الجولاني سارع ليلة الثلاثاء-الأربعاء إلى إرسال رتل من 1000 مقاتل إلى مناطق عمليات “فجر الحرية”، وذلك وفق مصادر ميدانية مناهضة لـ”هيئة تحرير الشام”. وذكرت المصادر أن مقاتلي الجولاني أجبروا فصائل “الجيش الوطني” على تسليمه مطار منّغ العسكري ومطار كويرس، كما اقتحموا المحطة الحرارية. وتبدو رسالة الجولاني من خلال محاولة احتكار الانتصار والغنائم واضحة، وهي موجّهة إلى تركيا قبل غيرها.