رحلة تشرّد جديدة انطلق فيها أكراد ريف حلب الشمالي، بعضهم للمرة الثالثة في حياته، نحو المناطق الخاضعة لسيطرة “الإدارة الذاتية” المعلنة من طرف واحد في شمال سوريا، فيما ينتظر آخرون ما ستؤول إليه الأمور والوساطات في حيرة بين الرحيل والبقاء.
وأحدث سقوط حلب على يد “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) والتبدّل المفاجئ في خريطة تقاسم النفوذ في عاصمة الشمال ومركز الثقل الاقتصادي في سوريا، صدمة لدى التنظيمات الكردية المسلّحة في أحياء داخل حلب ومناطق في ريفها منذ سنوات وفتح الباب أمام نزوح جماعي لمئات الآلاف ربما.
ريف حلب خال من المسلّحين الأكراد
وبعد احتلال تركيا لأجزاء واسعة من الريف الشمالي لحلب في عملية “غصن الزيتون”، شهدت عفرين والريف المحيط، ذات الغالبية الكردية، نزوحاً جماعياً جنوباً وشرقاً نحو مناطق الشهبا ودير حافر وتل رفعت، حيث تم ايواء العدد الأكبر منهم، مع انتقال آخرين إلى مناطق سيطرة قوات سوريا الديموقراطية “قسد” في شرق الفرات.
بالمقابل، فإن ممارسات الفصائل المسلّحة التابعة لتركيا والمنضوية تحت مظلّة “الجيش الوطني”، قد أدّت إلى هروب العديد من السكّان الأكراد، الذين اختاروا في البداية البقاء في منازلهم رافضين النزوح.
وبعد انسحاب الجيش السوري من حلب ودخول “هيئة تحرير الشام” والفصائل المتشددة المتحالفة معها إلى المدينة، شهدت جبهات الريف الواقعة تحت سيطرة “قسد” والمجاورة لمناطق سيطرة “الجيش الوطني” التابع لتركيا، هجمات متتالية في محاولة للسيطرة عليها، حيث تم تطويق معظم البلدات والقرى التي يقطنها المهجّرون الأكراد.
وأسفرت الهجمات إلى عقد اتّفاق ينص على انسحاب الفصائل الكردية المسلّحة: “قسد” و”قوات تحرير عفرين” و”وحدات حماية الشعب” من هذه المناطق إلى منبج الواقعة تحت سيطرة “الإدارة الذاتية” في غرب الفرات، والأخرى الواقعة في شرقه.
ويؤكّد الصحافي محمد حبش، المتابع للتطوّرات الميدانية في المنطقة، في حديثه إلى “النهار” على اخلاء المسلّحين الأكراد للمناطق التي كانوا يسيطرون عليها في ريف حلب الشمالي والشمالي الشرقي بشكل كامل، “ولم يبق في المنطقة سوى المدنيين”.
نزوح نحو 150 ألف كردي من ريف حلب
تراوح عدد النازحين من الأكراد وعائلات من بلدتي نبّل والزهراء الشيعيّتين شمال حلب، إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة “الإدارة الذاتية” في كل من الطبقة والرقة حتى ساعة إعداد التقرير ما بين 135 ألفاً و150 ألفاً، حسب الأرقام الصادرة عن الجهات الخدمية ومنظّمات المجتمع المدني التي تحاول تقديم المساعدة لتلك العائلات.
وحسب حبش “توجد أعداد كبيرة من النازحين الراغبين بالخروج من المناطق المحاصرة، وتتوالى المناشدات لفك حصار فصائل الجيش الوطني لمناطقهم”.
ويقول: “صباح الأربعاء قامت الإدارة الذاتية بإرسال حافلات إلى المنطقة من أجل إجلاء بقية المدنيين الراغبين في الخروج، لكن فصائل الجيش الوطني منعت عبور الحافلات من حاجز المسلمية”.
ولفت إلى أن “عدم وجود وحدات مسلّحة إلى جانب المدنيين الذين يشكّل النازحون من عفرين بعد احتلالها من تركيا غالبيّتهم زاد من صعوبة الوضع، ونداءات الاستغاثة لم تهدأ. هؤلاء يريدون الخروج بأي ثمن”.
بيان الجولاني لم يطمئن الأكراد
في بداية الحرب السورية، ودخول المجموعات المسلّحة إلى مدينة حلب في تموز (يوليو) 2012، نجح المسلّحون الأكراد في إغلاق الأحياء ذات الغالبية الكردية في شمال مركز مدينة حلب بكل من الشيخ مقصود والأشرفية وما حولهما أمام دخول المسلّحين والجيش السوري على حد سواء في محاولة منهم لتحييد هذه المناطق.
وبعد استعادة الجيش السوري سيطرته على مدينة حلب عام 2017، حافظت هذه الأحياء على وضعها “المحايد” حيث قامت الجهات الكردية بإدارة شؤون قاطنيها، فيما تكفّلت الفصائل المسلّحة الكردية بحمايتها.
ومع سيطرة “هيئة تحرير الشام” والفصائل المتحالفة معها على حلب، وانسحاب الفصائل المسلّحة الكردية من الريف الشمالي، لا يزال مصير هذين الحيين مجهولاً، في ظل استمرار المساعي من أجل التوصّل إلى اتّفاق يضمن استمرار الوضع القائم أو تكرار تجربة المناطق الأخرى ذات الغالبية الكردية في الريف.
وشهد الحيّان اشتباكات متقطّعة خلال الأيام الأولى من دخول “هيئة تحرير الشام” إلى حلب، لكن وتيرتها تراجعت إلى حد كبير في الأيام اللاحقة، مع استمرار حالة الحذر للانتقال من وإلى هذه الأحياء نحو المدينة وتزايد الحديث عن حالات قنص لتحركات المدنيين النادرة على خطوط التماس بين الجانبين.
وتتفاوت آراء أهالي الحيين الذين تواصلت معهم “النهار” خلال اليومين الماضيين بين راغب بالخروج نحو مناطق الإدارة الذاتية ومتمسّك بالبقاء “شرط بقاء القوّات الكردية المسلّحة أيضاً، خوفاً من مواجهة مصير نازحي الريف الشمالي” حسبما يقول الشاب هوشنك خ. البالغ من العمر 45 عاماً، وهو رب أسرة مؤلفة من 5 أشخاص.
وأكد أنه “حتى الساعة لم تشهد هذه الأحياء خروجاً جماعياً منظماً، والنزوح القليل الذي حدث في الساعات الأولى من سيطرة هيئة تحرير الشام على حلب، حينما قررت عائلات الهروب بإمكاناتها الشخصية”.
ورغم إصدار “هيئة تحرير الشام” على لسان زعيمها الجولاني بياناً لطمأنة الأكراد كما غيرهم من المسيحيين والأقليات القومية والإثنية الأخرى، إلا أن الروايات التي صاحبت وصول النازحين من المناطق الكردية في ريف حلب الشمالي والشرقي إلى مناطق سيطرة الإدارة الذاتية أججت من مخاوف الأكراد بشكل عام وقاطني أحياء مدينة حلب خصوصاً.
يقول حبش: “التقيت الكثير من النازحين الذين قطعوا مئات الكيلومترات أحياناً للوصول إلى المناطق الآمنة، والبعض اضطر إلى السير لساعات في ظروف من البرد والجوع لا يمكن تخيّله، لكن الأخطر من كل ما سبق، تعرّض الكثيرين إلى اعتداءات من قبل الفصائل المسلّحة التابعة لتركيا، رغم التعهّدات بفتح ممر إنساني والسماح للمدنيين بالخروج”.
وثّقت منظمات حقوقية كردية حالات اعتداء على مدنيين، منها إقدام عناصر من “فرقة الحمزات” التابعة لـ”الجيش الوطني” الاثنين الماضي، بعد سيطرة ما تسمّى “القوة المشتركة ” على مدينة تل رفعت، بذبح المواطنة الكردية أمينة حنان البالغة من العمر 40 عاماً من مهجري عفرين في منزلها، وإقدام رجل يدعى عبد الرحمن مرشد من أهالي قرية مسكه والمهجر إلى بلدة تلقراح بريف الشهباء على الانتحار بعد قطع مسلحين الطريق أمام سيارته، وغيرها من القصص.
وتبدي الجمعيات والمنظمات الكردية مخاوف من تصاعد الاعتداءات على المدنيين المحاصرين من قبل فصائل “الجيش الوطني” بشكل خاص، مقابل ازدياد أعداد النازحين وغياب البنى التحتية القادرة على استقبال كل هذه الأعداد وبسرعة كبيرة.