ما من لبناني عاش حقبة وجود الجيش السوري في لبنان، إلا وحمل ضغينة عميقة تجاهه. كان الإجرام سمته الأولى. ما بين أعوام 1976 و2005، فتك هذا الجيش ونظامه ومخابراته بالمجتمع اللبناني ونظامه السياسي والاقتصادي على نحو إجرامي، مجبول بالدناءة واللصوصية. هذا الاحتلال “الأخوي” تشاطر مع الاحتلال الإسرائيلي وعدوانيته في تدمير الحياة اللبنانية بالتناوب والتواطؤ منذ اتفاق كيسنجر-الأسد.
ومن التجارب المريرة مع هذين الجيشين، تناوبهما على الإمعان بتمزيق أي احتمال لالتئام اللبنانيين، وعلى منع أي تجاوز لانقساماتهم الطائفية، وقتل الحياة السياسية وتقويض الدولة وسيادتها، ووأد أي ديناميكية سلمية تتيح خروج اللبنانيين من الوصاية والاحتلال معاً. وحتى اتفاق الطائف، بوصفه خاتمة الحروب اللبنانية الأهلية برعاية سعودية وأميركية وسورية، سرعان ما شوهه حافظ الأسد ومن ثم ابنه بمعية أجهزته المخابراتية، منذ البداية، مع اغتيال الرئيس المنتخب رينيه معوض وتسليط ضباط المخابرات وأزلامهم من أمراء الحرب وسقط متاع الميليشيات المنحلة على الدولة والإدارة والمجتمع، وتناهب الموارد وإشاعة المافياوية كأسلوب حياة وعمل وسياسة وأخلاق. ومن ثم كان الانقضاض على المقاومة الوطنية اللبنانية، واستحواذ الجهاز الحرسي الإيراني وحزبه المحلي على تلك المقاومة لتكون امتداداً للمشروع الإيراني، وطموحات الأسد الإقليمية.
هذا ولا نغفل عن تناوب الجيشين أيضاً في الفتك بالفلسطينيين وتدمير مخيماتهم في لبنان.
وعندما أفل الاحتلال الإسرائيلي وزال عام 2000، اختلت “شرعية” وجود الجيش السوري، فجنّ نظام الأسد الذي اعتبر الانسحاب الإسرائيلي “مؤامرة”، وراح يمعن أكثر وبشراسة في القمع والتنكيل والترهيب باللبنانيين الذي راحوا يتخيلون استعادة مستحقة لاستقلالهم، ونهاية لحروب الآخرين على أرضهم، بعد انتهاء حروبهم الأهلية أيضاً، وميلهم نحو مصالحات وطنية تُجاري مسار إعادة الإعمار والازدهار الاقتصادي حينذاك.
ولم ننتبه آنذاك، لمدى عمق الشراكة الإيرانية وتغلغلها في لعبة السيطرة على لبنان، بواسطة حزب الله، الذي شاء بعد التحرير (عام 2000)، أن يحوّل المقاومة إلى مشروع أبدي، أو ذريعة كبرى لها حجتها الدامغة: محاربة إسرائيل. وهي بالأحرى، مشروع استيلاء على الكيان وتقييده بمحور إيران-سوريا من دون فكاك ولا سلم، وبكفالة الغلبة والهيمنة المذهبية والسلاح وفرق الاغتيال.
وعليه، بين رغبات الشطر الأعظم من اللبنانيين وإرادات ذاك المحور، وبالتزامن أيضاً مع “ربيع دمشق” الأول، الذي أظهر على نحو لا لبس فيه نفاد صبر السوريين من الاستبداد الأسدي، بدا الصدام محتوماً، والذي سينفجر أطناناً من الـ”تي. أن. تي” بجسد رفيق الحريري اغتيالاً لأحلام اللبنانيين جميعاً ولعاصمتهم.
ثم رداً على “انتفاضة الاستقلال” كان الاستدعاء السوري- الإيراني- الحزب اللهي للحرب الإسرائيلية عام 2006، كرغبة حارة ومحمومة للعودة إلى معادلة الاحتلالين وإبقاء لبنان “ساحة” لا بلداً ووطناً.
وبضراوة الاغتيالات والتلويح بالحرب الأهلية، كان اصطناع التناقض بين إنجاز الاستقلال وإنجاز التحرير.
هذا المحور نفسه، سيكون بعد أعوام قليلة أمام ثورة السوريين، لـ”يبدع” في الإبادة البراميلية والكيماوية والتطهير الطائفي: أكثر من نصف مليون قتيل وما يفوق المليوني جريح، وما يزيد عن 10 ملايين نازح ولاجئ.
وبالنظر إلى نسبة السكان في غزة وسوريا، وبغرابة رقمية لا مفاضلة فيها، نجد أن نظام الأسد ارتكب في سوريا ما ارتكبته إسرائيل في غزة بالتناسب نفسه. فإذا أخذنا عدد سكان غزة فهو يوازي تقريباً عشرة بالمئة من سكان سوريا. وعليه، نجد أن من قتلتهم إسرائيل هم نحو خمسين ألفاً (في سوريا 500 ألف). تناسب مروع.
ومن تجارب عقود مديدة، ذقنا وعلمنا أن أنظمة الاستبداد وإسرائيل معاً، قتلة أحلام الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين.
لذا، لا تناقض أن تكره الأسد وتكره إسرائيل.. وتكره ميليشيات السلاح الظلامي في آن واحد وبانسجام أخلاقي تام.