يُعتبر الدكتور جلال أمين (1935-2018) واحدًا ممن اشتغلوا على موضوع المثقفين العرب وإسرائيل، سواء من خلال المقالات الصحافية التي كتبها على مدار سنوات طويلة أو من خلال المحاضرات التي ألقاها حول الموضوع نفسه، قبل أن يجمعها في كتاب واحد بعنوان “المثقفون العرب وإسرائيل”، يشخّص فيه بشكل دقيق ما نعيشه اليوم كدول وشعوب عربية في ظل العدوان الإسرائيلي المدعوم من الولايات المتحدة الأميركية على غزة، رغم مرور خمسة وعشرين سنة كاملة على صدوره.

نجح جلال أمين، في تصوير حال العرب وما يعيشونه من أزمات وتقلبات خلقها تواجد الكيان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية، بقوله نقلًا عن محاضرة للمثقف أحمد بهاء الدين، إن العرب يحتدم بينهم الجدل ويحتد النقاش حول هذه النقطة أو تلك، ولكن ما يعيبهم أنهم يبدون وكأنهم لا يحسمون أبدًا أمرهم في أية قضية من القضايا التي يتناقشون حولها، فالقضية الواحدة تثار ثم تختفي، ثم تعود فتثار من جديد، هي هي بحذافيرها، من دون أن يصل فيها العرب إلى قرار حاسم ينصرفون بعده إلى غيرها.

ويختصر هذا القول حال العرب اليوم ونقاشاتهم العقيمة إن صح التعبير حول هذه القضية أو تلك، لا سيما إذا تعلق الأمر بالقضية الفلسطينية باعتبارها أبرز القضايا التي شغلتنا وتشغلنا بشكل خاص خلال هذه الفترة مع تزايد العدوان الإسرائيلي على غزة، وتزايد نقاشاتنا وجدالنا حول أسباب الوهن الذي وصلت إليه الدول العربية مقابل تجبّر الغرب وإسرائيل في معاملته لنا، التي تبرز في جرائم الحرب المستمرة ضد المدنيين في غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، قتلًا للمدنيين، أطفالًا ونساء، وقصفًا للمستشفيات وتدمير المنشآت وإبادة وتهجير شعب كامل من أرضه.

لماذا يتجبّر الغرب وإسرائيل في معاملة العرب؟

شخّص جلال أمين حالنا هذا، بقوله إنه ومنذ أيام رفاعة الطهطاوي أو قبله بقليل، ظل العرب يتعرضون كل يوم لاعتداء جديد من الغرب، وإن اتخذ هذا الاعتداء في كل مرة صورة مختلفة، فهو اعتداء عسكري مرة، وسياسي مرة، واقتصادي مرة، وثقافي مرة ولكنه في جميع الأحوال واحد في جوهره: حضارة قوية بعتادها ورخائها وثقتها بنفسها، تعتدي على حضارة أصابها الوهن الشديد في عتادها واقتصادها وثقتها بنفسها، فإذا بالحضارة المعتدى عليها تسأل نفسها، وتعيد على نفسها السؤال في كل مرة يتجدد عليها الاعتداء: ما سبب كل هذا الوهن؟ ما هو هذا الذي تنطوي عليه حضارتي أو ثقافتي ويمكن أن يعتبر مسؤولًا عن هذا الضعف؟ ما الذي عليّ أن أتخلى عنه لتجديد شبابي وقوتي، وما الذي يجب أن أحتفظ به لأنني لو تخليت عنه أكون قد تخليت عن وجودي نفسه؟

واعتبر جلال أمين أن هذا السؤال تكرر وسيتكرر إلى أن يجد العرب مخرجًا للمأزق الذي هم فيه، وليس غريبًا أن يعيد العرب إلقاء السؤال على أنفسهم كلما تجدّد العدوان عليهم وأجبروا على التراجع خطوة أو خطوتين أخريين إلى الوراء، فقد طرحه الطهطاوي في مصر وخير الدين باشا في تونس كرد فعل للحملة الفرنسية والاعتداءات البريطانية والفرنسية في الجزيرة العربية وشمال أفريقيا في النصف الأول من القرن التاسع عشر،  وظل يطرح خاصة في أعقاب إنشاء دولة إسرائيل والهزيمة الساحقة للعرب في حرب 1948.

وها نحن نتساءل إلى غاية اليوم عن سبب هواننا وضعفنا أمام العدوان الإسرائيلي على غزة، والحديث عن مستقبل مختلف لإسرائيل وخريطة الشرق الأوسط الجديدة. وبلغ شعورنا بالوهن كشعوب أقصى درجاته أمام بيانات الاستنكار والإدانة التي اكتفى بها الحكام العرب بعد مجزرة المستشفى الأهلي العربي المعمداني في غزة من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي.

وكما ذهب جلال أمين، فإننا نرى المثقفين العرب اليوم مثل الأمس، منقسمين إلى قسمين، الأول يرى أن هزيمة العرب وسبب هوانهم أمام الحضارة الغربية وإسرائيل بشكل خاص هو أنهم لم يأخذوا بالدرجة الكافية بأساليب العصر الحديث، والثاني يرى أن إهمال العرب لدينهم وتخاذلهم عن تطبيق الشريعة هما المسؤولان عن الهزيمة. وهكذا يبقى الجدال قائمًا، والعرب يقتل بعضهم بعضًا ويمزقون أنفسهم تمزيقًا، بحثًا عن مخرج من محنتهم مع الغرب وإسرائيل، في مقابل ذلك يزداد تعنّت وتجبّر الغرب وإسرائيل في معاملتهما للعرب، ولن ينتهي هذا التمزيق للنفس وهذا التعنّت والتجبّر، حتى يكتشف العرب مخرجًا مما هم فيه من مأزق. وهو المأزق الذي لم ننجح إلى غاية اليوم في الخروج منه، ولعل ذلك يعود بشكل أساسي إلى فقداننا لثقتنا بأنفسنا.


ماذا فعل بنا فقدان الثقة بالنفس؟

يقول جلال أمين أن أسوأ ما يمكن أن يصاب به الفرد، فقدانه لثقته بنفسه، فكذلك الأمة، إذا أصيبت في ثقتها بنفسها شلّت إرادتها وقعدت عاجزة عن التصرف، وقبلت ما كان عليها أن ترفضه، واستمرأت ما كان يجدر بها التمرّد عليه. ولا شيء أكثر من هذا القول، يفسّر ما تعيشه الأمة العربية اليوم من عجز عن التصرف أمام العدوان الإسرائيلي على غزة ومن قبولها بما كان عليها رفضه والتمرد عليه على غرار انتهاكات جيش الاحتلال الإسرائيلي وجرائم الإبادة المرتكبة في حق المدنيين.

وحسب جلال أمين، فإن فقدان ثقة العربي بنفسه أسوأ ما ترتّب على هزيمة 1967 من آثار، ويصف كيف انتهز أبواق الدعاية وأعداء العرب في الخارج والداخل الفرصة واستغلوا الهزيمة في ضعضعة ثقة العرب بأنفسهم وتعميق الشرخ الذي أحدثته الحرب، أملًا في انهيار البنيان بأكمله، فالتصريحات الإسرائيلية المتتابعة عما حدث في الحرب والتي روّجتها وسائل الإعلام الغربية بأقصى ما تستطيع من قوة، والحديث عن أن القضاء على القوة العربية لم يتطلب أكثر من بضع ساعات، ثم انطلاق الأحاديث والكتابات الكاذبة والشريرة بالقول بأن العربي لا يستطيع بطبعه أن يحارب، وأن المصريين بطبعهم يهربون إذا واجهوا خطر الموت، ثم الترويج المستمر لفكرة القوة الإسرائيلية التي لا تقهر ويد إسرائيل الطولى التي تصيب أعداءها في أي مكان، وخط بارليف المنيع الذي لا يمكن اختراقه … الخ ، كل هذا ساهم في أن يفقد العرب أكثر وأكثر ثقتهم بأنفسهم .

وإذا نظرنا إلى تحليل جلال أمين، وحاولنا إسقاطه على الهزيمة الثقيلة لإسرائيل في عملية “طوفان الأقصى” فسنجد أن العرب كانوا أمام فرصة ذهبية لمعاملة إسرائيل بالمثل وزعزعة ثقة الإسرائيليين بأنفسهم وأكثر من ذلك زعزعة ثقة الآخرين فيهم (المستوطنين من جنسيات أجنبية) إذا ما تمكنوا من الترويج بشكل واسع لحقيقة ضعف الجيش الإسرائيلي ومخابراته، وسقوط كذبة الجيش الذي لا يقهر، ومثل هذه الحرب النفسية من شأنها أن تعيد للعرب ثقتهم بأنفسهم، ولكننا فشلنا في ذلك أمام الوهن والتخاذل الذي جعلتنا حكوماتنا نشعر به، في حين ذهبت إسرائيل إلى التغطية على هزيمتها تلك وسبقتنا في صراع الثقة بالنفس، وراحت تعمل على ترويج الأكاذيب حول الوحشية التي تعاملت بها حماس مع الأطفال والشيوخ والمدنيين من المستوطنين لتكسب تعاطف العالم وتزكية عدوانها على غزة الذي تسعى من خلاله لاستعراض قوتها التدميرية، ومنع ترسيخ صورة إسرائيل الضعيفة.

ويقول جلال أمين أن ما يحدث للفرد الذي يفقد الثقة بالنفس، أنه يساهم هو نفسه في مزيد من التحقير لذاته، والمبالغة في تصوير نقائصه، والاعتراف بأخطاء لم يرتكبها، وقد ساهم للأسف، كثير من الكتاب العرب في تعميق الشعور بالمهانة والسخط على النفس لدى شعوبنا، ولم يكن كل هذا هينًا بالنسبة لإسرائيل عقب هزيمة 1967، بل كان هدية فاخرة لها لا تقل أهميتها عن انتصارها المادي في الحرب، وكانت هي تعرف قيمتها جيدًا، ومن ثم ساهمت مع أصدقاؤها في دعم  هذا الشعور وتكريسه آنذاك وتعمل حاليا بكل قوتها على منع نقله إلى الإسرائيليين.

ويذهب جلال أمين إلى أبعد من ذلك، حيث يرى أن إسرائيل حرصت دائمًا على خلق صورة معينة للعربي منذ حرب 1967، وتثبيتها في ذهن العالم عنه، وفي ذهن العربي عن نفسه. وكان من أسوأ ما تخشاه إسرائيل من نتائج حرب 1973 هو أن تتغير هذه الصورة التي روّجت لها. وكان هذا أحد الأسباب المهمة التي جعلت الولايات المتحدة تحرص على أن يكون ما تحققه مصر من نجاح فيها نجاحًا محدودًا.

لماذا يلعب العرب اللعبة التي يريدها الغير؟

إن علاقة العرب ومواقفهم منها تتحدد أساسًا من علاقاتهم مع الولايات المتحدة، ويقول جلال أمين، في هذا السياق، إنه ليس من الصعب التدليل على تبعية البلاد العربية للولايات المتحدة الأميركية، وأما دول النفط في الجزيرة العربية فتبعيتها العتيدة للغرب منذ عثر فيها على البترول أوضح من أن تحتاج إلى دليل. لقد كانت الوظيفة التاريخية لحكومات هذه الدول ولا تزال، منذ تدفقت عليها أموال النفط، هي إعادة تدوير هذه الأموال إلى الغرب بطريقة أو بأخرى، إما بشراء سلع الاستهلاك الترفي، أو إقامة مشروعات قليلة الجدوى للعرب ولكنها كثيرة الربح لشركات الغرب، أو شراء أسلحة عديمة النفع، واستثمار ما يتبقى بعد ذلك من فوائض في بنوك الغرب وشركاته، أو إقراضه لمؤسسات التمويل الدولية لإعادة إقراضها للعالم الثالث طبقًا لشروط هذه المؤسسات، مقابل ذلك يقنع حكام هذه الدول بالحصول على إيرادات هي أشبه بالعمولات منها إلى شيء آخر، تعتبر سخية بالنسبة لهذه الأسر الحاكمة، ولكنها زهيدة جدًا بالمقارنة بالثروات التي يسلمونها للغرب.

ويؤكد أمين على أن العرب لم يتصرفوا في علاقتهم ومواقفهم مع إسرائيل بإرادة حرة في أي وقت من الأوقات. وكانوا دائمًا في مواقفهم من إسرائيل محكومين أو مدفوعين أساسًا بقوة خارجة عنهم، سواء كان الحاكم خائنًا أو وطنيًا، وسواء اتفق العرب فيما بينهم أو اختلفوا، بل إن اتفاقهم أو اختلافهم كان هو أيضًا في معظم الأحيان، مرسومًا ومقررًا سلفًا من قوة خارجية، لهذا لا يقبل القول الذي ظل يتردّد كثيرًا، ومفاده أنه ما دام العرب قد أثبتوا أنهم لا يستطيعون الاتفاق فيما بينهم فليقبلوا الصلح مع إسرائيل أيا كانت الشروط المعروضة عليهم، أو القول بأن العرب أثبتوا أنهم غير قادرين على تحقيق الوحدة الاقتصادية والاندماج الاقتصادي العربي فليقبلوا إذًا السوق الشرق أوسطية التي تدمج إسرائيل في المنطقة.

وبمعنى آخر فإن القول بأن العرب ما داموا قد أثبتوا أنهم لا يعرفون كيف يشتركون في اللعب مع بعضهم البعض، فليلعبوا اللعبة التي يريد الغير أن يلعبها معهم. ويشدد على أن هذا الكلام غير مقبول لأنه يتجاهل أن هذا الغير هو الذي كان دائمًا يقوم بإفساد اللعبة العربية، وعجز العرب عن ممارسة أي لعبة فيما بينهم لا يثبت شيئًا على الإطلاق فيما يتعلق باللعبة الجديدة المعروضة عليهم. ويبدو أن حكام العرب، وعلى خلاف شعوبها التي تنظر إلى اللعبة بعين جلال أمين وترفض التطبيع مع إسرائيل، قد اختاروا لعب اللعبة التي يريد الغير لعبها معهم، ومظهرها في ذلك اتفاقات التطبيع التي تمت المصادقة عليها أو التي ما زالت المفاوضات بشأنها جارية، قبل العدوان الأخير على غزة.