السجن-المسلخ. هذه خلاصة “سوريا الأسد”. كنا نعرف ذلك. الآن هو الرواية التي يسمعها ويشاهدها العالم، بوصفها الإرث الوحيد والأصيل، بل الإنجاز الأبرز لآل الأسد.
الانعتاق، هذه خلاصة سوريا بعد الأسد. هو الشعور الأول لدى ملايين السوريين. كأنهم جميعاً كانوا هناك في أقبية تحت الأرض، وخرجوا بمعجزة إلى الشمس والهواء.
مدن العالم، بساحاتها وشوارعها كانت طوال الأسبوع الماضي تشهد الفرح العارم، والنشوة الغزيرة الدموع، للذين حرمهم الأسد من وطنهم. أكثر من نصف السوريين كانوا لاجئين ومنفيين ومغتربين قسراً.
وهناك في قلب سوريا، في كل قرية ومدينة، في كل حارة، في كل بيت.. العناق الحار للمّ الشمل، البكاء المرير المؤجل على مئات آلاف القتلى والمفقودين، على أكداس الألم التي كانت مكبوتة عبر أجيال.
إلى هذا الحد كان الديكتاتور الأبله والسادي موغلاً في كراهية شعبه، وفي الحقد بلا حد على وجودهم. كان أيضاً مخلصاً لتربية أبيه ووصاياه.
ما الذي ترويه لنا الأيام العشرة التي انتهت بتحرر سوريا لأول مرة من الطغيان البعثي؟
الحكاية ذاتها للاستبداد العربي، لكن هذه المرة، أكثر انحرافاً ومرضاً وأشد تفاهة. بلا خطاب تنحي، بلا قتال. قرر أن يكون مشهده الأخير: لص وجبان، وخائن حتى لعصابته.
أيضاً، تروي لنا الأيام الأخيرة، جريمة الذين فرضوا بقاءه 13 عاماً إضافية، الحلف الشيطاني، البراميلي، الكيماوي، الذي شرب دم السوريين بشراهة لا توصف. هؤلاء، دولاً وعصابات وميليشيات ومرتزقة، كانوا يعرفون أن سلطة بشار الأسد انتهت في ربيع العام 2011. مع ذلك، قرروا التآمر على السوريين حتى ولو بالإبادة والتطهير السكاني. فسوريا بنظرهم، مجرد “معبر”، أو “قاعدة” عسكرية، أو مصنعاً للمتفجرات والكبتاغون.. جغرافيا للاستباحة وشعب للاستغلال.
الأيام العشرة الأخيرة، تكشف أن الأسد لم يترك لـ”الموالين” يوم 8 كانون الأول سوى العار. فرّ وترك بين أيديهم وفي نفوسهم وعلى ألسنتهم الخواء الأخلاقي. لم يجهد واحد منهم في كلمة تبرير. ولم يأسفوا ولم يعتذروا ولم يدافعوا عن أنفسهم. كانوا فقط مثقلين بالعار. شعروا به ساحقاً، إلى حد أنهم جميعاً لم يقاوموا أو يكابروا. أكثريتهم، وبالخسة المعهودة، راحوا يسلخون جلودهم ويستعيرون ثوب الثورة وعلمها.
كل العدة اللغوية المتضخمة والأيديولوجيات الممسوخة والنظريات اليسارية والقومية والدينية والتاريخية، كل “الممانعة” بقضها وقضيضها، بإعلامها ومثقفيها وساستها، بدت هكذا في خلاصة واحدة: العار.
مضت أربعة أيام فقط على نهاية الكابوس الأطول في تاريخ الديكتاتوريات العربية. وبدأ الخوف والتخويف. الخوف عند الغيارى، والتخويف عند المتربصين. الفارق بينهما، أن الأول مشروع جداً ومرغوب للحس السياسي، ولتدبير المخاطر وتجنب الأخطاء المؤذية. صنع “الوطنية السورية” مهمة هائلة، للأكثريات والأقليات، للإثنيات والطوائف، وأصعب من تجربة العشرينات والثلاثينات. الأسدية تركت جروحاً غائرة وأوراماً وخلايا سرطانية وانحطاطاً أخلاقياً وتشوهات ثقافية، وحطاماً اقتصادياً، وخراباً في العمران والبيئة. لكن أيضاً، ما اخترعته وصقلته واختبرته وعايشته أطياف المجتمع السوري، منذ بداية الثورة وحتى اليوم، في الداخل والخارج، منحها الكثير من العبر والدروس والنضج أيضاً. كفة التسامح مثلاً الراجحة حتى الآن، انتشار مقولة “لا للثأر” الغالبة، هاجس طمأنة المتخوفين كشعار سياسي وكممارسة ميدانية، منذ الوصول إلى أسوار حلب وفي قلب دمشق وانتهاء بالقرداحة.. وشواهد لا تحصى تخيّب صنّاع التخويف، الذين يضطرون يومياً إلى ابتداع محتوى كاذب على نحو ركيك. هؤلاء الذين يبحثون عن مجزرة، عن تفجير، وحتى عن سلوك أرعن لينفخوا به وسائل إعلامهم، ليس لديهم غاية سوى البرهنة مجدداً أن الشعب السوري (والشعوب العربية أيضاً) لا يستحق حريته، وغير جدير إلا بالبوط العسكري.
ليكن دافع الخوف والتوجس، أشبه بالرقابة والاستنفار، بل واجب سياسي. فالرغبة بدولة مدنية ديموقراطية عادلة، تحاذيها طموحات خطرة عند بعض المنتصرين ونشوتهم بالسلطة. وتوازيها خطورة، أولئك المتربصين بسوريا وشعبها، من إسرائيل إلى حلفاء الأسد الخائبين.
مع ذلك، سنتفاءل، بلا تخلٍ عن الخوف المشروع، ونقول: الشعب السوري عارف طريقه.