بضربة خفيفة أصبح محمد الحلبوسي رئيساً سابقاً لمجلس النواب بعد خمس سنوات آمنة قضاها في ذلك المنصب باعتباره الشخصية “السنّية” الأكثر قبولاً بالنسبة إلى زعماء الكتل والأحزاب الشيعية الحاكمة. لم يتطلب التخلص منه سوى جلسة سريعة للمحكمة الاتحادية لكي تصدر قرارها بإسقاط عضويته في مجلس النواب، وهو ما أدى تلقائياً إلى إلغاء منصبه الرئاسي. ومثلما صعد الحلبوسي سريعاً وبطريقة مفاجئة إلى رئاسة السلطة التشريعية سقط بالطريقة نفسها. ولأن الحلبوسي لا ينتمي إلى الطبقة السياسية “السنّية” التي اختارها الأميركيون لتمثيل ما سمّوه “المكوّن السنّي” في النظام الطائفي الذي فرضوه بعد الاحتلال، فإن سحب البساط من تحت قدميه كان قد تم بيسر. فالرجل لم يمتهن السياسة إلا ليكون واجهة صنعها نوري المالكي لتحل محل الواجهة القديمة التي تخلّص من رموزها، إما بشمولهم بقانون 4 إرهاب أو بإحالتهم إلى التقاعد ومن ثم تسفيرهم إلى العاصمة الأردنية عمان أو إلى اسطنبول، وإما لأن الموت خلّصه منهم.
لم يظهر الحلبوسي، وهو من مواليد 1981، على الساحة السياسية إلا بعدما شُرخت صورة النظام الطائفي واختل توازنه الصوري بغياب ممثلي السنّة التقليديين الذين ينتمي أغلبهم إلى جماعة “الإخوان” بصيغتها العراقية. ما يجب تذكره هنا أن رئيس مجلس النواب السابق لم يكن قد بلغ الثانية والعشرين من عمره حين وقع الغزو الأميركي. أما حين وُضع في منصب رئاسة السلطة التشريعية فإنه قدم كل فروض الطاعة لإيران كما أملاها عليه المالكي. جرى يومها تزوير لإرادة سكان مدن غرب العراق من خلال اختيار ممثليهم. ذلك هو أساس مصطلح “سنّة المالكي” الذي تم تداوله سخرية.
ابحث عن الفساد
ولأن “سنّة المالكي” كما اتُّفق على تسميتهم صاروا يتسابقون على وراثة المنصب الذي أُجبر الحلبوسي على مغادرته، فإنهم سيتخلون عما اعتقد الحلبوسي أن منصبه يؤهله لطرحه على الحكومة، وهو قانون العفو العام، تُلحق به مسألة إعادة المهجرين إلى مدنهم التي سبق أن احتلها تنظيم “داعش” وتم تحريرها عام 2017.
وللحق يجب الاعتراف بأن الحلبوسي رجل مدني لا علاقة له بالطابع الديني الذي ميّز مَن سبقوه من سياسيي “السنّة”. غير أن تلك الصفة تعوم بالرغم من أهميتها مقابل ما كان الرجل يحتله من مكانة في المعادلة السياسية التي لم يكن طرفاً مهماً فيها، بالرغم من أنه كان يدير السلطة التشريعية. وهنا علينا أن نضع الأمور في نصابها الحقيقي. الحلبوسي لم يكن شخصية قوية بغض النظر عن إدارته مشاريعه الاقتصادية الخاصة التي هي جزء من دورة الفساد العام. كان لديه الكثير من الأتباع والمناصرين، غير أنهم لم يكونوا إلا جزءاً من ماكينة الفساد التي كان يديرها. ولو لم يكن كذلك لما بقي في منصبه خمس سنوات. سيتعلم من يرث منصبه من أخطائه درساً سيجعله أكثر حذراً وهو يعقد صفقات فساده. من المؤكد أن المالكي وشركاءه وهم شركة متحدة قد اكتشفوا أن الحلبوسي قد أخفى عنهم من صفقات الفساد ما يستحق الطرد عليه. أما ما أعلنته المحكمة الاتحادية فلا يُعتدّ به. فالمحكمة منذ أُنشئت مسيسة، وهي تتلقى تعليماتها من المالكي شخصياً.
هل أطاحته شعبيته؟
أن يكون الحلبوسي خارج الحلبة، فإن ذلك لن يغير شيئاً في المعادلة السياسية القائمة. سيُقال إن المالكي طرد أحد أتباعه. لا أكثر ولا أقل. ألهذه الدرجة من الوضاعة وصل منصب رئيس السلطة التشريعية في العراق؟ ذلك استنتاج مؤسف ولكنه مرآة لحقيقة العملية السياسية التي ركّبها الأميركيون على قاعدة تمزيق الشعب العراقي التي ورثها الإيرانيون ليتمكنوا من خلال ميليشياتهم من البقاء في ظل هلع طائفي، سيكون دائماً مصدر توتر، لن يلتفت العراقيون بسببه إلى أحوال دولتهم التي تنتقل من فشل إلى آخر. واقعياً فإن الحلبوسي كان يُدير مجلس نواب صورياً. لم يكن المجلس ليمثل سلطة إلا في حدود ما تقرره الأغلبية فيه. وتلك الأغلبية كانت ولا تزال موالية للمالكي. ولكن هل هناك وجه آخر للمشهد هو ما دفع بتحالف الإطار التنسيقي الحاكم إلى التخلص من الحلبوسي بقرار لا رجعة عنه من المحكمة الاتحادية؟ في غياب الحزب الإسلامي الذي احتكر التمثيل “السنّي” زمناً طويلاً، نجحت الأحزاب والكتل السياسية “السنّية” الصغيرة في تأليف قاعدة شعبية لها في مدن غرب العراق، وكان حزب “تقدم” الذي أسسه الحلبوسي قد حظي بالحصة الأكبر من تلك الشعبية. وللحلبوسي شخصياً إنجازات مهمة على المستوى الخدمي شهدتها تلك المدن التي كانت تعاني إهمالاً حكومياً واضحاً. ومما يُحسب له أيضاً دفاعه المستميت عن المعتقلين (نحو 64 ألف معتقل) وإلحاحه المستمر على ضرورة إقرار قانون العفو العام من أجل إطلاق سراحهم. كل ذلك صنع له صيتاً، كان من الممكن أن يشكل عاملاً مهماً يمكّنه من التحرر من التبعية للمالكي وخلق فرصة لولادة زعامة “سنّية” جديدة متحررة من الضغوط الإيرانية.
نظام طائفي من غير حدود واضحة
ربما توقع البعض أن تُربك إقالة الحلبوسي المشهد السياسي قبيل إجراء الانتخابات البلدية التي يعوّل عليها تحالف الإطار التنسيقي كثيراً، لجهة تمكنه من إحكام سيطرته على الدولة والتخلص نهائياً من كل أثر لأتباع مقتدى الصدر، بعدما أعلن الصدر بنفسه عن مقاطعة تلك الانتخابات. ذلك توقع ليس في محله كما أكدته ردود فعل الأحزاب “السنّية” الصغيرة التي دخل زعماؤها حلبة التنافس لخلافة الحلبوسي في منصبه. ما كان مفاجئاً أن تلك الردود كشفت عن حماسة لقرار المحكمة الاتحادية، وهو ما يعني أن الحلبوسي، بالرغم من شعبيته، لم ينجح في احتواء منافسيه ممَّن ينتمون مثله إلى الطبقة السياسية الجديدة التي تمثل مصالح رجال الأعمال الذين وجدوا في العمل السياسي وسيلة لحماية مشاريعهم التي لا يمكن عزلها عن الفساد العام.
لم يكن سقوط الحلبوسي مدوّياً، بالرغم من أنه كان يحتل منصب رئاسة واحدة من السلطات الثلاث. وهو ما يعني هشاشة ذلك المنصب وضعف موقعه. كما أن ما جرى لم يُحدث هيجاناً طائفياً، وهو ما يكشف عن أن أحزاب السلطة الشيعية قد نجحت في تمييع الحدود في النظام الطائفي بما ييسّر لها تصريف شؤونه مثلما تريد.