فتحت الهدنة الإنسانية في قطاع غزة، والاتفاق على إطلاق سراح أسرى والرهائن، الأبوابَ بشكل واسع على تحليلات كثيرة عن المرحلة التي تليها. بطبيعة الحال، تنقسم الآراء بين من يعتبر أن ما جرى هو انتصار لحركة حماس، وأن الهدنة ستكون قابلة للتمديد، وسيتراجع الزخم العسكري الإسرائيلي، وأن الولايات المتحدة ستضغط على اسرائيل لمنع التصعيد مجدداً. وبين من يرى أن الهدنة ستكون مرحلة التقاط أنفاس وبعدها استئناف العمليات العسكرية. وعلى اختلاف القراءتين، فإن الطرفين المتصارعين يجمعان على كلمة واحدة، وهي أن ما يجري منذ 7 تشرين الأول إلى اليوم هو رسم لشرق أوسط جديد.
سريعاً، بدأ محور المقاومة الإعلان عن الانتصار مع الوصول إلى اتفاق الهدنة. وهذا الانتصار له جملة اعتبارات. أولاً، أن حركة حماس بقيت صامدة عسكرياً، ولم ينجح الإسرائيليون في تحقيق أي هدف عسكري، ولا بتوقيف أو أسر أي من قياداتها ولا بتنفيذ عمليات اغتيال بحقهم. كما أن عمليات المقاومة بقيت مستمرة. وثانياً، يعتبر محور المقاومة أن الاتفاق تم إبرامه مع حركة حماس، وهي التي وافقت عليه. وبالتالي، حافظت حماس على وجودها وجددت الاعتراف بها، على المستويين العربي والدولي. وهذا يتناقض مع ما قاله الأميركيون والإسرائيليون حول إنهاء حماس وسحقها، والتفكير في مرحلة ما بعدها. ثالثاً، لم يبرز أي دور للسلطة الفلسطينية في هذا الاتفاق، وهي التي كانت بعض الدول تسعى إلى منحها دوراً في غزة. أما رابعاً، فلا بد أنه يستند على كلام وزير الخارجية الإيرانية حسين أمير عبد اللهيان من بيروت، والذي قال إن مصير قطاع غزة ستقرره حماس والشعب الفلسطيني.
معادلة جديدة
وعليه، فإنه على ضفة حزب الله ومحور المقاومة، فثمة اعتبار أنه لا بد التعامل مع الطرح الذي يقول بإنشاء شرق أوسط جديد وفق معادلات متغيرة ما بعد 7 تشرين أول، طالما أن اسرائيل لم تنجح في تحقيق أي هدف عسكري من الأهداف التي أعلنتها. هي مرحلة جديدة داخلياً وخارجياً، فإما الذهاب إلى تسوية كبرى وشاملة تعطي حقوق الفلسطينيين، أو بناء قوة لمعركة جديدة ستكون بتوجه أكبر وأعنف وأكثر شمولية على صعيد محور المقاومة.
ولذلك، هناك إصرار في التسريبات على أن حماس خاضت المعركة لوحدها، ولم تكن منسقة مع الآخرين. أما المرحلة المقبلة فستكون ربما بشن هجوم عبر أكثر من جبهة. وهو الذي سيؤسس لمعركة العسكرية كبرى.
هذه المعادلة الجديدة لا بد أن يكون لها تداعيات سياسية كبيرة لصالح الحزب في لبنان مثلاً وإيران في المنطقة. من خلال عدم القدرة على اتخاذ أي قرار في المنطقة أو بما يخص القضية الفلسطينية من دون تأثير وفعالية إيران وحلفائها. وبحال استمرت الهدنة وتكرس الانتصار، فإن الانعكاسات السياسية ستكون لصالح حزب الله في لبنان. وكما كانت حماس هي التي تفاوضت مع القوى الإقليمية والدولية، فإن أي تفاوض أو اتفاق سيحصل بين هذه القوى وحزب الله. فالأخير عمل على تكريس دوره وشراكته في هذا الانتصار، من خلال اللقاءات مع حركة حماس، ومسؤوليها، وزياراتهم المتكررة إلى بيروت، بالإضافة إلى زيارة حسين أمير عبد اللهيان، الذي أثبت أيضاً شراكة بيروت وحزب الله في ما جرى. وفي هذا السياق، تشير مصادر متابعة إلى أن لقاءات ستجمع عبد اللهيان بمسؤولين في محور المقاومة من حزب الله، حماس، والجهاد الإسلامي. كما أن بعض المعلومات تفيد باجتماعات لمسؤولين سياسيين وميدانيين في المحور في بيروت، ضمن غرفة العمليات المشتركة، لتقييم المرحلة المقبلة ما بعد الهدنة ودراسة كل خياراتها.
الأهداف الإسرائيلية
أما بالنسبة إلى الطرف الآخر، أي اسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، فهم أيضاً يتحدثون عن شرق أوسط جديد، وسط إصرار إسرائيلي على استمرار العمليات العسكرية في قطاع غزة بعد الهدنة، حتى وإن تم تمديدها. حسب التقديرات لدى هؤلاء، فإن حماس ستكون خاسرة مستقبلاً، لدى استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية، بالإضافة إلى الدخول إلى شمال القطاع والتحضير لتنفيذ عمليات برية في جنوبه، وأن هذا سيؤدي إلى تهجير السكان، وبالتالي تضييق الإطار الذي كانت حماس تسيطر عليه في غزة. ثانياً، فإن العمليات العسكرية التي نفذها الإسرائيليون أدت إلى تهجير السكان. وهو هدف استراتيجي بالنسبة إلى الإسرائيليين. كما أن اغتيال إسرائيل لنائب قائد كتائب القسام في لبنان، قد يشير إلى تنفيذ المزيد من العمليات المشابهة في المرحلة المقبلة. وهذا أيضاً قد يستمر في قطاع غزة بالمرحلة المقبلة بحق قيادات حماس. في إطار استكمال المساعي لدى الإسرائيليين والأميركيين لإرساء واقع سياسي وعسكري جديد يفرض تغييراً كبيراً على جسم حماس ومسؤوليها.
استمرار الحرب
هناك من يعتبر أنه لا يمكن الوصول إلى اتفاق سياسي كبير يؤدي إلى وقف الحرب، لأنه لا يمكن ترك اسرائيل مهزومة من دون تحقيق أي هدف عسكري. بناء عليه، فإن الترجيحات تشير إلى استمرار العمليات العسكرية لتحقيق أي انجاز عسكري. كما أن هناك مسألة أساسية لا بد من الوقوف عندها، وهي الموقف الإسرائيلي الأميركي المشترك من كل التطورات، بما فيها الوضع الإيراني ووضع حزب الله خصوصاً، فيظل وجود المدمرات الأميركية ذات الهدف الردعي، أو ذات هدف أبعد يتصل بإعادة تشكيل الشرق الأوسط، وهو ما سيوجب فرض وقائع جديدة وقواعد اشتباك أو أمن جديد. فهذا له طريقان، إما اتفاق سياسي شامل يؤدي في لبنان إلى تطبيق القرار 1701، أو تصعيد العمليات العسكرية لفتح المسار أمام صفقة جديد لتطبيقه. لا سيما أن حزب الله يؤكد بوضوح بأنه بعد ما جرى في غزة سيستحيل تطبيق هذا القرار في لبنان، خصوصاً مع المكاسب التي يحققها الحزب والقوة التي يراكمها.