في منتصف التسعينات، وفي واحدة من علامات “التمرد” التي أظهرها الرئيس رفيق الحريري، نُظِّمت حملة وطنية من أجل تنفيذ قرار مجلس الأمن 425 الداعي لانسحاب إسرائيل من المناطق الجنوبية المحتلة. وشبهة التمرد سببها أن الحملة هذه بدت وكأنها رغبة لبنانية بـ”الانفصال” عن ما سمي حينها وحدة المسارين السوري-اللبناني، الذي يربط مصير لبنان بالجولان. وعليه، وبعد توبيخ الدولة اللبنانية وقادتها على فعلتهم الشنيعة، عاد الصمت، وبات الرقم 425 شبه محرّم.

في العام 2000، وطوال أشهر الربيع، شن النظام السوري-اللبناني المشترك، كما قادة حزب الله والمسؤولين الإيرانيين، حملة منظمة ضد “نوايا إسرائيل بالانسحاب من طرف واحد” من جنوب لبنان. وتم وصفها بـ”المؤامرة”، طالما أن هكذا انسحاب سيفصل عملياً مصير الجنوب عن الجولان. وربما سيطرح أيضاً انسحاباً سورياً من لبنان.

بعد حرب تموز 2006 وصدور القرار الأمم 1701، نشأ أمر واقع عسكري-سياسي، يجعل التقدم في تنفيذ مندرجات القرار المذكور صعباً للغاية. وبوجود عقدة حدودية في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وخراج بلدة الماري (أو شمالي قرية الغجر)، أصبح تنفيذ الـ1701 مجمّداً، فيما قوات اليونيفيل تتقيّد أكثر فأكثر في حركتها وعملياتها وصلاحياتها، خوفاً من “غضب الأهالي”.

بعد 7 تشرين الأول 2023، تغيرت “قواعد الاشتباك” بين حزب الله وإسرائيل. وعصف هذا التغير بالهدنة أو الهدوء النسبي في الجنوب طوال 17 عاماً تحت مظلة الـ1701 الهشة والمثقوبة.

ووفق ما تعلمنا وذقنا، فإن كل ما يستجد يحول دون العودة إلى حال سابقة. وإذا كانت “المقاومة الإسلامية” اضطرت إلى مساندة غزة بقدر محسوب وموزون عسكرياً، فإنها فرضت تحدياً صعباً على إسرائيل، يجعلها غير قادرة بدورها على العودة إلى ما كان عليه الأمر قبل 7 تشرين الأول، حتى ولو أراد حزب الله ذلك.

حتى الآن، يبدو أن “الانضباط” الذي يبديه حزب الله في إيقاع أعماله العسكرية، رغم حدتها، و”الضبط” الأميركي للنيران الإسرائيلية، رغم عنفها، يمنعان نشوب حرب واسعة النطاق. لكن هذا بحد ذاته بات وضعاً لا يقود إلا للحرب.

بمعنى آخر، نشب وضع أكثر حدة مما كانت عليه الحدود قبل 1982، والذي تذرعت به إسرائيل وشنت اجتياحاً تحت عنوان “سلامة الجليل”. فسكان الجليل من المستوطنين الإسرائيليين هم الآن “نازحون” أيضاً، ويبدو أنهم باتوا يشكلون وجهة سياسية ضاغطة مساوية للضغط الذي شكله مستوطنو ما يسمى غلاف غزة. وجهة تقول بمنتهى الوضوح المخيف: لن نعود إلى مستوطناتنا قبل القضاء على حماس في غزة والتخلص من حزب الله في جنوب لبنان.

يترتب على هذا الأمر خطر هائل، أقله أن إسرائيل الآن تروّج لنفسها على أنها تطالب بتنفيذ القرار 1701 لتأمين الاستقرار عند الحدود. أي أنها عملياً تحاول الاستحواذ على شرعية دولية لتوجيه ضربة تدميرية للبنان، بحجة فرض القرار الأممي.

في الأثناء، صار لحماس والجهاد الإسلامي (ومنظمات أخرى) وجود عسكري برفقة الانتشار الكثيف لقوات حزب الله. وهذا أيضاً يدخل في الاعتبارات الإسرائيلية التي تجمع الذرائع السياسية والأمنية، تحت عنوان “منعاً لتكرار 7 تشرين الأول” على الحدود اللبنانية.

وإذ يدرك الجنوبيون (وسائر اللبنانيين) أن الإسرائيليين تراودهم الرغبة بتكرار ما يفعلونه بغزة في لبنان، يبدون خشيتهم بل رفضهم للدخول في الحرب، ويعولون على أن يبقى “الحزب” تحت هذا السقف الحدودي الضيق في عملياته الميدانية. كما يأملون في الوقت نفسه أن تبقى إسرائيل مرتدعة دون جنون التدمير. تعويل وأمل لا يزنا ريشة في مهب الريح.

ويجري هذا كله، فيما الدولة اللبنانية تردد كببغاء سمجة “لبنان ملتزم بالقرار 1701″، بلا حول ولا قوة. وربما لا يطول الوقت وتخرس، طالما عبارتها هذه قد تناسب العدو وتؤذي “المقاومة” في طريقها إلى القدس.