على علو 2814 متراً وفي الهواء البارد، أطلّ “مهندس الشرق الأوسط الجديد” بنيامين نتنياهو ليعلن بقاء جيشه في جبل الشيخ “لحين التوصّل لترتيب مختلف”، فيفرِد سيطرة إسرائيل على هذه القمّة الاستراتيجية وسط حماوة التطوّرات الإقليمية من البوابة السورية بعدما أسقطت المعارضة المسلّحة بشار الأسد، وبالتالي حكم عائلته الذي دام أكثر من 50 عاماً.
يوسّع نتنياهو المبتهج بـ”انتصاراته” حدود السيطرة الإسرائيلية من جنوب لبنان إلى جنوب سوريا، مستفيداً من عوامل عدّة، الأبرز فيها تراجع النفوذ الإيراني والروسي في سوريا مع سقوط الأسد وفراره، ضرباته الساحقة لـ”حزب الله” في لبنان، تهديداته للعراق و”نووي إيران” وآخرها في الساعات الماضية تنفيذ غارات عنيفة ضد الحوثيين في اليمن. فأمام هذا المشهد الإقليمي الساخن والمتجدّد، ماذا تريد إسرائيل من قمّة جبل الشيخ؟
عن الجبل… التاريخ والجغرافيا
يقع جبل الشيخ ضمن مساحة هضبة الجولان التي تبلغ 1200 كيلومتر مربّع، على الحدود بين لبنان وسوريا وفلسطين، أقصى شمال الجولان وتُعد أعلى نقطة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسّط. وتمتد السلسلة الجبلية على طول حوالى 45 كيلومتراً من بانياس السورية وسهل الحولة في الجهّة الجنوبية الغربية إلى وادي القرن في الجانب الشمالي الشرقي.
يحِد جبل الشيخ من الشرق والجنوب منطقة وادي العجم وإقليم البلان وقرى الريف الغربي لدمشق والجولان، ومن الشمال والغرب القسم الجنوبي من سهل البقاع ووادي التيم في لبنان. ويضم 4 قمم، أعلى قمّة تُسمّى شارة الحرمون في سوريا ويصل ارتفاعها إلى 2814 متراً، الثانية إلى جهّة الغرب بارتفاع 2294 متراً، الثالثة إلى الجنوب بارتفاع 2236 متراً عن سطح البحر والرابعة فتقع في جهّة الشرق بارتفاع يصل إلى 2145 متراً.
أُطلقت تسمية جبل الشيخ، المعروف أيضاً بـ”جبل حرمون”، نسبة إلى قممه التي تُغطّى بالثلوج وتُشبه عمامة الشيوخ البيضاء.
وأطلق عليه العرب أيضاً اسم “جبل الثلج”، ويُعرف كذلك باسم “جبل الزعيم” لكونه أعلى نقطة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسّط. أمّا في إسرائيل، فيُسمّى بـ”عيون الأمّة” لأن ارتفاعه يجعله مكاناً استراتيجياً لوضع نظام الإنذار المبكر الأساسي لها على علو 2280 متراً.
بالإضافة إلى موقعه، يتمتّع جبل الشيخ بموارد مائية غنيّة وتربة خصبة، إذ تغطّي الثلوج قممه معظم أيّام السنة وتتميّز الحياة النباتية فيه بالخصوبة حيث تكثر كروم العنب وأشجار الصنوبر والبلوط والحور.
إلى ذلك، يُعد الجبل المنبع الرئيسي لنهر الأردن ولأنهار عدّة أخرى في المنطقة كنهر الوزاني ونهر جرجرة، ما يوفّر حوالى 1.5 مليار متر مكعّب من المياه سنوياً. ويغذّي أيضاً نهر الحاصباني، نهر بانياس ونهر اللدان.
في الموازاة، تحتوي المنطقة على آثار كثيرة إذ اكتشف فيها أكثر من 30 مزاراً ومعبداً.
ماذا تريد إسرائيل؟
بعد أيّام من سقوط الأسد وانهيار الجيش السوري وسيطرة الفصائل المسلّحة على الحكم في دمشق، احتلّت قوّات إسرائيلية جبل الشيخ بعدما دخلت المنطقة منزوعة السلاح بين سوريا والجولان.
ومع سقوط النظام، أعلن نتنياهو انهيار اتّفاق “فضّ الاشتباك” الموقّع عام 1974 مع سوريا بشأن الجولان، وأمر الجيش بالسيطرة على المنطقة العازلة حيث تنتشر قوّات من الأمم المتحدة. فإثر حرب تشرين الأوّل (أكتوبر) 1973 بين إسرائيل وسوريا، توصّل الطرفان إلى اتّفاق هدنة استمر سريانه حتّى 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024. وكجزء من الاتّفاق، أُقيمت منطقة عازلة بطول 80 كيلومتراً تخضع لمراقبة الأمم المتحدة.
يطلّ جبل الشيخ على 4 دول هي سوريا ولبنان والأردن وإسرائيل فيوفّر نقطة مراقبة تُشرف على مناطق واسعة من هذه الدول، فيُمكّن إسرائيل من تعزيز قدراتها في جمع المعلومات الاستخباراتية ومراقبة التحرّكات في المنطقة.
يكشف الجبل على دمشق التي تبعد عنه نحو 40 كيلومتراً فقط وبادية الشام والجولان وسهول حوران في سوريا، وجبال الخليل وبحيرة طبريا وسهل الحولة وجزء من محافظة إربد الأردنية، بالإضافة إلى كل جنوب لبنان وسلسلة جبال لبنان الغربية وسهل البقاع، وتعتبر تُضاريسه الوعرة عاملاً ناجحاً للتجسّس.
مع هذه الأهمّية الاستراتيجية لإسرائيل، ذُكر جبل الشيخ في النصوص الدينية اليهودية أكثر من 70 مرّة، ما يمنحه أهمّية دينية عقدية لدى اليهود، خصوصاً المتطرّفين.
من قمّته، أعلن نتنياهو أن إسرائيل ستبقى في موقع جبل الشيخ لحين التوصّل لترتيب مختلف، كاشفاً نيّتها تكريس وجودها العسكري فيه.
بدوره، أوعز وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس إلى الجيش بالاستعداد للبقاء في قمّة جبل الشيخ طيلة فصل الشتاء، وقال: “جبل الشيخ عاد للسيطرة الإسرائيلية بعد 51 عاماً في لحظة تاريخية مؤثّرة”.
وأضاف في بيان له: “سنبقى هنا طالما كان ذلك ضرورياً، إن وجودنا في قمّة جبل الشيخ يعزّز الأمن وُيعطي بعداً إضافياً للمراقبة والردع لمعاقل حزب الله في سهل البقاع، فضلاً عن الردع ضد المعارضين في دمشق الذين يدّعون أنّهم يمثّلون وجهاً معتدلاً. جبل الشيخ بات عين إسرائيل لتحديد التهديدات القريبة والبعيدة”.
أمان المستوطنين
انطلاقاً من تجربة 7 تشرين الأول (أكتوبر) وتداعياتها وحرب أيلول (سبتمبر) مع “حزب الله” في جنوب لبنان، تنظر إسرائيل إلى السيطرة على جبل الشيخ كنقطة عسكرية لنشر أنظمة دفاعية واستخباراتية متقدّمة تعزيزاً لأمن المستوطنات في الجولان والجليل الأعلى.
ومع هذا التفصيل، أفاد مكتب نتنياهو الأحد الماضي بأن الحكومة وافقت بالإجماع على خطّة بقيمة 11 مليون دولار “للتنمية الديموغرافية للجولان… في ضوء الحرب والجبهة الجديدة في سوريا والرغبة في مضاعفة عدد السكّان”.
وشدّد نتنياهو على أن “تدعيم الجولان هو تدعيم لدولة إسرائيل وهو أمر مهم خصوصاً في هذا الوقت”، وقال: “سنواصل ترسيخ وجودنا هنا وتطويره والاستيطان”.
ويعيش في الجولان نحو 23 ألف عربي درزي ويعود وجودهم إلى ما قبل السيطرة الإسرائيلية عليه ويحتفظ معظمهم بالجنسية السورية، إضافة إلى نحو 30 ألف مستوطن إسرائيلي.
وسيطرت إسرائيل على القسم الأكبر من الجولان عام 1967 وأعلنت ضمّها عام 1981. بعد شهر فقط، أسّست مستوطنة مروم جولان كأول مستوطنة فيها. وبحلول عام 1970، أقامت 12 مستوطنة إضافية.
على وقع التطوّرات المتسارعة، يعود إلى الذاكرة تصريح الرئيس العائد إلى البيت الأبيض دونالد ترامب عندما قال إن “مساحة إسرائيل تبدو صغيرة على الخريطة ولطالما فكّرت كيف يمكن توسيعها”، وهو الذي اعترف عام 2019 بسيادة إسرائيل رسمياً على مرتفعات الجولان.
فبين الشرق الأوسط الجديد وعودة ترامب، هل تتغيّر خرائط حدود الدول فيتحقّق حلم إسرائيل الكبرى؟